بقلم حازم الأمين/
في العراق لم تحترق أصوات المقترعين السنة ولا أصوات المقترعين الأكراد، احترقت أصوات مقترعي جهة الرصافة في بغداد، وهي أصوات شيعة المدينة ممن رسموا باقتراعهم مشهدا سياسيا مختلفا.
لا يمكن فصل الحدث المذهل عن مقدماته. اقترع الشيعة العراقيون وجرت عمليات فرز تخللها، بحسب قضاة ونواب ومراقبين، عمليات تزوير كبرى، وأعقب ذلك قرار بمعاودة الفرز يدويا ونجم عن هذا المسار العنيف حريق كبير أتى على الأصوات.
إن جماعة أهلية أحرقت ما كانت قد اعتقدته صوابا قبل أيام قليلة، أحرقت خياراتها
إنها “قصة حرق معلن” لأمل أخير في التغيير. وينطوي الخبر على بعد رمزي تراجيدي لطالما حفل به تاريخ الجماعة الشيعية منذ تشكلها. فلطالما عاش الشيعة في ذلك البلد على شفير مأساة، وليس خصومهم وحدهم من كان يتسبب بها. ثورة العشرين أدت إلى إقصائهم، وإطاحة الملكية وما أعقبها من انقلابات عسكرية توجت بوصول البعث إلى السلطة وعلى رأسها صدام حسين، كل هذا جرى في سياق تراجيدي كانت الجماعة الشيعية في صلبه. واليوم يبدو حرق الانتخابات، تتويجا رمزيا لهذا الإمعان المتعمد بالخسارة.
الشيعة أحرقوا أصوات الشيعة في بغداد. هذا هو المسار الطبيعي لرحلة عمرها أكثر من 1400 سنة. ففي قصة الإحراق رائحة منبعثة من مشهد قديم، مشهد المصرع الذي لطالما تكرر في هذا العراق الحزين. وفي هذه القصة تتويج تراجيدي لحكاية حكم الشيعة للعراق بعد أن أطاحت أميركا بقاتلهم.
حدث الإحراق ليس امتدادا للحرب الأهلية التي كانت بدأت في العام 2006 بين الشيعة والسنة، وليست جزءا من أكلاف الحرب على “داعش”، ولم تجر في سياق النزاع مع الأكراد. الحدث هو حرب بين الشيعة والشيعة، حرب لاحت مؤشراتها منذ اليوم الأول للسقوط، حين أقدم شيعة على قتل إمام شيعي على باب ضريح الإمام علي.
لطالما عاش الشيعة في العراق على شفير مأساة، وليس خصومهم وحدهم من كان يتسبب بها
الضحية لا تملك قدرة على الخروج من موقعها في المأساة، فهي ما إن تفعل حتى تشعر بالاختناق. لمشهد احتراق محطة الرصافة الانتخابية بعد خرافي أسس له منذ قرون طويلة. نوع من إحراق النفس وفعل ندامة مواز للندم الأصلي على خذلان الإمام الأول. هذا هو التشيع الحقيقي، وما عداه هو الإسلام. فعلى القدر أن يخذلنا، وإن لم يفعل سنتولى خذلان نفسنا بيميننا. اليد التي اقترعت هي اليد التي أحرقت. ليس مهما ما تقوله الحكومة عن أن الشكوك تدور حول الصدريين وحول جماعة هادي العامري، المهم أن العراق سقط بالعجز الكامل. لا قدرة له على معاودة فرز الأصوات ولا وقت كاف لإجراء الانتخابات من جديد، والقبول بالنتائج على رغم التزوير الهائل الذي شابها ليس منطقيا ولا عمليا. قال السيد مقتدى الصدر في أعقاب هذا المشهد إن البلد على شفير حرب أهلية! لا شيء يقال في ظل هذا الاستعصاء إلا أنه امتداد لاستعصاء السلطة على أهلها الجدد.
ومشهد الاحتراق مولد للكثير من الصور والمشاعر. فالمادة المحترقة هي رغبات الناخبين وخياراتهم. وبهذا المعنى يمكن القول (رمزيا) إن جماعة أهلية أحرقت ما كانت قد اعتقدته صوابا قبل أيام قليلة. أحرقت خياراتها. ألا يردنا هذا إلى مزاج المنتحر، وإلى قابلية للانتحار مؤسسة على خبرات في هذا المجال متراكمة منذ قرون؟ الجماعة النادمة أبدا أحرقت نفسها على ضفة دجلة من جهة الرصافة، والنهر بدوره سيكف عن الجريان الشهر المقبل بفعل سد أنشأته تركيا.
لا، ليس فسادا ولا تزويرا ما جرى. هو فعل تصويبي، فالسلطة ليست دأب الجماعة. العيش خارجها هو الخيار، والانتخابات ليست سوى نزوة عابرة بجب تصويب ما ينجم عنها من إغواء. أصوات السنة لم تحترق، وأصوات الأكراد أيضا. وحدهم الشيعة أيتام حكومتهم. أليس هذا دأبهم منذ ولدوا؟ واليوم لا يصح الحديث عن جلاد غريب، ولا عن سلطة بعيدة جائرة. واليوم أيضا لا تصلح السياسة لتفسير الحدث، والوقائع لا تقدم ولا تؤخر في حال الاستعصاء هذا. من أحرق الانتخابات؟ من قتل الإمام على باب ضريح الإمام؟ في العراق كل هذا ليس مهما، فالتراجيديا تحتاج لوقائع من هذا النوع لكي تتجدد وتذكر الجماعة نفسها بأنها ولدت خارج فكرة السلطة، وهي، إذا ما سقطت تحت تأثير إغوائها، ستصير جزءا من إسلام القصر، وهذا ما ينافي التشيع.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال