الشرق الاوسط
ما كان البائس أيمن بن خريم الأسدي يملك غير سيفه الكليل عندما دعاه عبد الملك بن مروان ليقاتل معه «المحل» عبد الله بن الزبير، وأجابه أيمن غير متتعتع: لكن يا أمير المؤمنين هل كل العراقيين والحجازيين الذين مع ابن الزبير هم من المحلين والمرتدين؟! فقال عبد الملك: بالطبع لا! فقال الأسدي: إن سيفي هذا أعمى لا يميز بين المؤمن والكافر، فإن أردت مني مقاتلة رجل يصلي على سلطان آخر من قريش، فأعطني سيفك الذي لا يقتل غير الكفار! فغضب عبد الملك وطرد أيمن وكل بني أسد من مجلسه العامر الذي ما عاد فيه شاك واحد!
هذا ما قاله الأمين العام لحزب الله في آخر خطاباته الصاعقة بعد تفجير الضاحية المهول! قال لحضور مهرجانه الحاشد (الذي ليس فيه شاك واحد) احتفالا بالنصر في «حرب تموز» المجيدة، إنه مصر على مقاتلة «التكفيريين» حتى لو اضطر للذهاب بنفسه، أما الذين لا يندفعون معه للقتال في سوريا ولبنان والعراق فهم في حكم الخونة، والقتلة والمسهلين لأعمال الإرهاب!
ذهب حزب الله للقتال في سوريا منذ عام ونيف. وبشرنا أول ما بشرنا بالانتصار على التكفيريين من أهل بلدة القصير! والإعلاميون الذين أخذهم رجالاته إلى حمص قبل عدة أسابيع، قالوا إنهم لم يروا هناك غير مراكز لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، وما رأوا مركزا واحدا لجيش بشار الأسد، مع أنهم طلبوا ذلك وكرروا الطلب. وكل يوم نسمع من هنا وهناك أن مجاهدي الحزب يقاتلون بريف دمشق وبحلب ولا أدري أين وأين. وقد قال لنا الأمين العام للحزب مرارا وتكرارا إنه إنما ذهب للقتال في سوريا ضد التكفيريين ودفاعا عن المراقد المقدسة. وتذكر مرة واحدة في الاحتفال الإيراني السنوي بيوم القدس أن الشيعة الاثني عشرية على وجه الخصوص لن ينسوا مقدسات المسلمين في فلسطين. نعم في فلسطين. ورغم كل تلك التصريحات، فإنه قال لنائب وزير الخارجية الروسي إنه إنما ذهب للقتال في سوريا للحيلولة دون سقوط دمشق في أيدي المتمردين!
ليست هذه هي المرة الأولى التي يقتل فيها الحزب في لبنان وخارج لبنان. فقد بدأ الأمر في الثمانينات من القرن الماضي بالقتل والخطف والتفجير، وليس ضد الأجانب وحسب، بل وضد الشيعة الذين يخالفونه في الرأي، وبعض هؤلاء كانوا قد بدأوا القيام بعمليات ضد المحتل الإسرائيلي. ولماذا نعود إلى الثمانينات؟ فبعد عام 2005 المعروف وإلى قتل اللواء وسام الحسن قبل شهور سقط المئات في لبنان في عمليات قتل مستهدف، تحول بالتدريج إلى قتل عشوائي مثل الذي يحدث في سوريا الآن.
و«الجهادية» القاتلة هذه باسم فلسطين أو باسم مقاتلة أميركا، ما كانت قصرا على أمة حزب الله (هكذا كان الحزب يسمي نفسه أحيانا)، بل ظهر لدينا نحن أهل السنة جهاديونا، وقتلتنا الذين سموا جماعات العنف بمصر في السبعينات، والذين صاروا مشكلة عالمية بعد أن تصدوا للولايات المتحدة بزعامة أسامة بن لادن عام 2001. وقد استتر حزب الله بفلسطين وبالاحتلال الإسرائيلي طويلا، في حين ما استتر جهاديونا ولو للحظة بل قرروا: مقاتلة الكفرة والفجرة في مجتمعاتنا وفي العالم، عالم الفسطاطين، حيث تسود ثنائية الأبيض (بن لادن وأصحابه) والأسود (كل الناس، وأكثر المقتولين هم من المسلمين الذين تناولتهم عواصف الفتك ولا تزال!).
إن التكفيريين الذين اكتشفهم زعيم حزب الله فجأة في سوريا، وقاتلناهم نحن منذ التسعينات ولا نزال، ما صادموا أبدا إسرائيل، ولا اصطدموا بحزب الله، وظلوا يتبادلون مع الحزب الاستحسان والتنافس في الفتك والقتل، وكل يعمل في مجاله القاتل، بل إنه عندما أرسل إلينا بشار الأسد عام 2007 بعض هؤلاء تحت اسم «فتح الإسلام»، وتقدمت الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني لقتالهم، أخبرنا الأمين العام للحزب بأن مقاتلة هؤلاء «خط أحمر»! والمعروف أنه في العام نفسه احتلت حماس غزة، وفي العام التالي (2008) احتل حزب الله بيروت!
بالنسبة لنا وفي فهمنا، وفي وقائع السنوات الماضية المأساوية؛ فإن «القاعدة» وجهادييها المزورين، وحزب الله ومقاومته، الفريقان من طبيعة واحدة، وهم ظاهرة واحدة: القاعديون انشقاق قاتل عن أهل السنة وفي قلبهم، وحزب الله انشقاق قاتل عن الشيعة وفي قلبهم. فلماذا اختلف تعامل العرب والعالم مع القرمطيتين؟ شن الجميع على القاعديين حربا عالمية، بينما لجأ العالم (ولجأنا نحن) للمراوغة والتفاوض وعقد الصفقات مع الحزب ورعاته؟! المنطق الأعوج ذاك ساد باعتبار أن الحزب ترعاه دولة يمكن التفاوض معها لكف عاديته وشره؛ بينما القاعديون لا زمام لهم ولا راع يمكن اللجوء إليه ومساومته. ثم إن الحزب بعد حرب عام 2006 ما عاد بحاجة للاستتار بفلسطين وإسرائيل، وانصرف مع إيران وبقيادتها لشرذمة الدول والمجتمعات في المشرق العربي وما وراءه. ولا أدل على هذه التفرقة في التعامل من السلوك إزاء الحزب في الحرب السورية. في حرب عام 2006 تدخل العالم كله وأصدر مجلس الأمن قرارات. وفي الحرب السورية المستعرة بدماء الشعب السوري وعمرانه وأطفاله ما نجحنا في الوصول إلى قرار دولي واحد، ولا يزال الأكثرون يعتبرون أنه ربما كان الأفضل ترك مهمة مقاتلة الجهاديين لحزب الله، وإجراء صفقة معه ومع رعاته عندما يصبح ذلك ناضجا، أي عندما لا يعود بسوريا عمران ولا سكان كما هو الحال بحمص الآن وبحلب!
إن الذي يحدث للمرة الأولى منذ استفحال ظاهرة الأصوليات القاتلة لدى السنة والشيعة (وللمرة الأولى) يصرخ مهتاجا لاعتداء «التكفيريين» على ما يعتبره منطقة نفوذ. ولأن الطرفين لا يعرفان غير لغة السلاح والقتل ولا ينفعان إلا فيها وبها؛ فإن الأطراف الدولية والإقليمية تستخدمهما بهذه الطريقة للاستمرار في تخريب ديارنا، والاستمرار في تغييب العرب، وهو أمر اعتادوا عليه منذ سنوات حربهم «الكونية» على العراق!
كيف يمكن لبشر أو حجر إقرار أو قبول أو استحسان تفجير الضاحية الفظيع أيّما تكن الجهة التي تقف وراءه. ونحن متأكدون أن الذين قاموا بهذه الفعلة، وسواء بسبب العمالة أو بسبب العقائدية المزورة، مجرمون لا يستحقون غير القتل جزاء ما فعلوا. لكن ما الفرق بين هذه الفظاعة، وفظاعة الحرب الدائرة في سوريا، والتي صارت لسلاح الحزب فيها خاصية التمييز بين التكفيري وغير التكفيري!
السوريون المعتدى عليهم بالقتل والتشريد هم أناس مظلومون وضحايا، مثل أهل الضاحية المعتدى عليهم بالتفجير والإرهاب. ولست أدري في الحالتين ما الفرق إذا كان الضحايا من السنة أو الشيعة أو المسيحيين أو العلويين. لكن الانقسام بين السنة والشيعة واقع يتفاقم ويشتت أسرا ومجتمعات. وعلة ذلك ظهور الانشقاقين في صفوفهما، ثم اصطدام هذين الانشقاقين أحدهما بالآخر على أرض الناس وأجسادهم وأرواحهم وحياتهم ومستقبلهم. والمتشددون هؤلاء وإن يكونوا قلة فإنهم يستطيعون في ظروف الحصار والفتنة إفساد قضية الأكثرية.
في مأساة الضاحية الجنوبية لبيروت قتلت بنت عمي السنية من أم شيعية. أما والدة الفتاة فسكتت، وأما الوالد فاتهم الحزب وأمينه العام بالتسبب في ذلك، في حين أصرت أخوات الفتاة وخالاتها على اتهام التكفيريين السنة. إنه انقسام يهدد بانفصام، ونصر الله لا يزال مصرا على أن مدفعه الرشاش يستطيع التفرقة بين السني الطيب والسني الشرير. ورحم الله أيمن بن خريم الأسدي!