بيّنت التظاهرات الاخيرة في محافظة البصرة وغيرها من المحافظات الوسطى والجنوبية والمطالبة بتوفير الخدمات الاساسية من كهرباء وماء صالح للشرب وغيرهما ، ان الاجراءات والتصريحات التي قدمها مجلس الوزراء العراقي ومجالس المحافظات هي بعيدة جدا عن التطبيق الفعلي وتنقصها المعلومة الفنية والتقنية الاساسية لحل هذه المشاكل. فبعد رجوع وفد مجلس محافظة البصرة من زيارته لايران خائبا بعدم حصوله على موافقة الجانب الايراني بالاستمرار بمده بالطاقة الكهربائية او زيادة الاطلاقات المائية من نهر الكارون، قرر مجلس الوزراء بعجالة بان وفدا من الحكومة العراقية برئاسة وزير التخطيط وعضوية وزراء الكهرباء والنفط والنقل، سيقوم بزيارة الى السعودية للتباحث بامور تخص الطاقة، ولكن تم التصريح بعدها بتأجيل الزيارة لامور تتعلق بعدم استكمال الملفات.
يبدوا ان من قرر بقيام الزيارة في مجلس الوزراء وكذلك مَن ايده في وزارة الكهرباء، كان لا يعلم ان الربط الكهربائي بين السعودية واية دولة مجاورة لها تكتنفه صعوبات فنية كبيرة بسبب اختلاف ترددات الكهرباء في السعودية وهي 60 هيرتز او ذبذبة في الثانية، في حين ان تردد شبكات الكهرباء في جميع الدول الاخرى المجاورة هي 50 هيرتز، وهذا يتطلب اولاً تحويل الطاقة الكهربائية المراد نقلها من التيار المتغير الى التيار الثابت وبفولتية عالية جدا، او ما يطلق عليه دي سي، ثم نقلها الى البلد الاخر بشبكة خاصة، وبعدها يتم تحويلها الى تردد البلد الاخر، وهذا الامر يكلف مبالغ طائله ويحتاج لفترة تتراوح ما بين سنتين الى ثلاثة لانشاء محطات التحويل في الجانبين والشبكة الخاصة، وهي ليس بالسهولة التي يتم فيها ربط الشبكات الكهربائية ما بين الدول والتي تعمل بنفس التردد، ويبدو ان احد المختصين بوزارة الكهرباء اخبر وزير الكهرباء او رئاسة مجلس الوزراء بذلك لاحقا، مما ادى الى تأجيل او الغاء الزيارة، والتي لم يعلن لحد الان السبب الحقيقي لالغائها.
ولاعطاء فكرة عن هذا النوع من الربط، فلقد قررت مصر والسعودية عام 2013، بربط شبكات الكهرباء بينهما للاستفادة من اختلاف ساعات الذروة ما بين البلدين، حيث ان ساعات الذروة في السعودية هي ما بين منتصف اليوم اي الثانية عشر ظهرا ولغاية الساعة الرابعة بعد الظهر، وذلك بسبب الحرارة العالية في تلك الفترة وتشغيل اجهزة التكييف باعلى طاقاتها، في حين ان ساعات الذروة في مصر تبدأ من السعة السابعة مساءً وذلك بسبب تشغيل الانارة، اضافة لاختلاف التوقيت ما بين البدين، وكانت الكلفة حينئذ 1.6 مليار دولار لنقل 3000 ميكاوات، وتوقف الامر على هذا الخبر، ثم تجدد طرح الموضوع في الشهر الرابع من هذا العام، وبتقدير جديد للكلفة بحدود 2 مليار دولار وتنفيذ قد يستغرق ما بين عامين الى ثلاثة اعوام. فإذا كنا نعذر وزير الكهرباء كونه مهندسا ميكانيكيا وليس مهندسا كهربائيا، فالعذر غير وارد لرئيس الوزراء وهو مهندس كهرباء، وكان من المفترض سؤال اهل الخبرة في وزارة الكهرباء قبل القرار بارسال هذا الوفد.
المصيبة الاخرى، ان البصرة والتي تعاني من ملوحة شط العرب منذ بداية تسعينات القرن الماضي ان لم يكن قبلها، وكانت الحلول واضحة اما تحلية المياه الخارجه من محطات تصفية المياه للتخلص من الاملاح الذائبة ثم ارسالها بشبكة المياه بعد تعقيمها، او بمنع مسببات تملح ماء شط العرب في منطقة البصرة، وهي عديدة وتحتاج لمبالغ طائلة ووقت طويل لمعالجتها ومنها تغيير نمط الري في الزراعة، ومنع صرف مياه المجاري الى أنهر دجلة والفرات وروافدها المختلفة، ومنع رجوع مياه البزل الى الانهر والقنوات وتقليل التبخر في البحيرات والاهوار والقنوات المائية، ومن المفترض ان يكون اعضاء مجلس محافظة البصرة يعرفون بالحلول الممكنة لتخفيف الملوحة، وخاصة بوجود مركز علوم البحار في البصرة والذي قام بابحاث كثيرة حول هذا الموضوع وكيفية معالجة الملوحة.
إن كمية المياه التي تنتجها المشاريع والمجمعات المائية في محافظة البصرة هي بحدود 1.5 مليون متر مكعب يوميا، لكنها تعاني من الملوحة الزائدة حيث تتراوح قيمة الاملاح بين 540 جزء في المليون، او 540 ملليغرام في لتر واحد من الماء، وأعلى قيمه وهي بحدود 7700 جزء في المليون في مواسم شحة المياه، ومعدلها السنوي العام في البصرة هو بحدود 2200 جزء في المليون. وهذه الارقام مأخوذة من التقرير السنوي لوزارة التخطيط، وهي اعلى بكثير من القيمة التي حددتها منظمة الصحة العالمية للماء الصالح للشرب وهو 500 جزء في المليون. وتعتبر طريقة التناضح العكسي لتحلية المياه هي الافضل والارخص عالميا ولحد الان، وهذه الطريقة تستخدم حاليا لانتاج 60 بالمائة من المياه المحلاة عالميا، وهي مفضلة على طريقة التبخير الومضي والذي كان شائعا منذ السبعينات وهي طريقة تستخدم تقريبا في انتاج 26 بالمائة من الماء المحلى عالميا، ومن فوائد التناضح العكسي ان كلفة انتاج الماء المحلى تقل كلما قلت ملوحة الماء المستخدم، لان الضغط اللازم لتمرير الماء المالح خلال الاغشية المستخدمة في التحلية يقل كلما قلت ملوحة الماء اي ان الطاقة الكهربائية اللازمة لضغط الماء سوف تقل، وكما يزداد العمر التشغيلي للاغشية كلما قلت ملوحة الماء الوارد تحليته، مما يتسبب بتقليل معدل استبدال الاغشية. واذا علمنا ان ملوحة مياه الخليج العربي هي بحدود 40 الف جزء في المليون، مقارنة بمعدل 2200 جزء في المليون في المياه الخارجة من مجمعات ومشاريع المياه في البصرة، فان المتوقع ان تكون الكلفة التشغيلية لمحطات التحلية المستخِدمة للمياه الناتجة من مشاريع المياه اقل من ربع الكلفة التشغيلية لمحطات التحلية التي تستخدم مياه البحر، وخاصة إذا علمنا ان كلفة انتاج المتر المكعب من المياه المحلاة بطريقة التناضح العكسي هي بحدود الدولار تقريبا، لذلك فمن المستغرب جداً ان يطالب اكثر من شخص في مجلس محافظة البصرة بإنشاء محطة تحلية باستخدام مياه البحر، علما بان هنالك كلفة اضافية لمد خطوط الماء من اقصى جنوب الفاو الى البصرة، ولم تعترض اللجنة الوزارية الخاصة بحل مشاكل البصرة او الوزارات المعنية على هذا الامر، وكأنما ليست لديها لجان فنية قامت بدراسة هذا الموضوع ووضعت حلولا لها.
وكان شط العرب يمثل قناة مائيه فريدة باستغلالها للمد البحري الاتي من الخليج العربي والذي يقوم بدفع الماء العذب القادم من نهر الكارون وكذلك من تدفق مياه شط العرب القادم من الشمال، وإرسال هذه المياه العذبة للانهر والقنوات المتفرعة من شط العرب مرتين كل يوم، وتحول دون تأثر مياه شط العرب بملوحة مياه الخليج. ومع تحويل مياه نهر الكارون الى داخل ايران وتصريف مياه البزل المالحة بدلا منها الى شط العرب وقلة ايرادات شط العرب الآتية من نهر دجلة وبقايا نهر الفرات، اصبح من السهولة على مياه الخليج المالحة الصعود شمالاً والاندفاع الى الانهر والقنوات المتفرعة من شط العرب بعد اختلاطها مع مياه شط العرب شبه العذبة، مما تسبب بتدهور الزراعة وعدم صلاحية المياه الواصلة حتى الى البصرة للاستهلاك البشري او للزراعة، وسميت هذه الظاهرة للمد باللسان البحري، وكان من المقرر بناء سد مانع لصعود مياه الخليج المالحة الى اعالي شط العرب، ولكن اختلاف وزير الموارد المائية الاسبق د عبد اللطيف جمال رشيد مع مجلس محافظة البصرة على موقع هذا السد اجّل البت في المشروع، ولكن المفاجأة الكبرى كانت اعتراض وزير الموارد المائية الحالي د حسن الجنابي على المشروع برمته، معتقدا بان الاطلاقات المائية الى شط العرب واقناع ايران بزيادة اطلاقات نهر الكارون سيكون كافيا لمنع صعود اللسان البحري، ولكن هذا الامر لا يمكن تحقيقه لأن الموارد المائية لشط العرب في تناقص شديد بسبب السدود والمشاريع المائية المقامة في تركيا وايران. واعتقد ان سبب رفض المشروع يعود الى حلم وردي بان يبقى شط العرب مفتوحا امام السفن والقوارب وتبقى بيئة شط العرب البحرية والاحيائية من دون تغيير، كذلك الظاهرة الجميلة بسقي انهر شط العرب مرتين باليوم بتأثير المد البحري، وجزء من هذا الرفض عائد حسب اعتقادي، لخلفية د حسن الثقافية والفنية ونجاحه بالحملة العالمية باعادة انعاش الاهوار. ولكن هذا الامر لا يمكن تطبيقه على شط العرب من دون وضع حواجز تمنع تغوّل مياه الخليج المالحة مرتين في اليوم الواحد على شط العرب.
ان بناء السد جنوب البصرة لمنع صعود مياه الخليج المالحة وكذلك معالجة اسباب تلوث مياه دجلة والفرات بمياه المجاري ومياه البزل المالحة وتغيير اساليب الزراعة، كلها ستساهم في تحسن نوعية المياه في شط العرب، اضافة لشق الانهر والقنوات لايصال المياه من شمال السد الى الأراضي في شرق شط العرب وغربه وحتى منطقة الفاو. ومع الاسف لم تضع وزارة الموارد المائية، خطة واضحة لاصلاح واقع شط العرب، مما ادى الى قرار من رئاسة مجلس الوزراء باعادة النظر في بناء السد المانع.
هذه الاخفاقات الثلاثة توضح ان القرار الفني والتقني لكثير من المشاكل الاساسية التي تؤثر في حياة المواطنين لا يزال بعيدا عن فكر وأعين المسؤولين في مجلس الوزراء ومجالس المحافظات ما جعل حلولهم لها ليست صائبة.
صحيح إننا نحتاج للربط الكهربائي مع دول الجوار ولكن ليس مع السعودية حالياً لأسباب تقنية بحتة، ومن الضروري تحلية المياه للبصرة و المحافظات المتضررة ولكن ليست مياه البحر بل مياه انهرنا لأن التحلية ستكون ارخص كثيراً والمياه متوفرة جنب محطات التصفية والتحلية، ونحتاج لمنع صعود اللسان المالح من الخليج الى شمال شط العرب ليس عن طريق الاطلاقات المائية لانها غير متاحة وتقوم بنزف الماء القليل المتاح في سدودنا للايام الشديدة الجفاف والقادمة مستقبلا، بل بانشاء سد قاطع على شط العرب يمنع صعود المياه المالحة شمال السد ويسمح بانتقال الاسماك والاحياء البحرية وكذلك السفن والقوارب عبر شط العرب، وكذلك احياء الاراضي شرق وغرب شط العرب ومنطقة الفاو.
اكاديمي مقيم في الامارات