يستهل الكاتب مقاله بالقول: “عندما نقول الحزب الديمقراطي الاشتراكي الإسلامي فنحن لا نعني حزبًا بعينه، ولكن نتمثل حزبًا يضم المكونات الرئيسية لشعب مصر، بحيث يكون هو الحل، كما يمكن القول إن هذا التركيب سيحل قضية “المواطن ” الشائكة والحساسة والملتبسة.”
وبما أن الكاتب يقول: ” فنحن لا نعني حزبًا بعينه” فمن المنتظر أن نتوقع منه تقديم وصفة لمعايير حياة حزبية مفتوحة تحظى بإجماع واسع مثلما هو الحال في المجتمعات المتمدنة كما سنرى. بينما حصر المكونات الرئيسية لشعب مصر في الديمقراطية والاشتراكية والإسلام، ضمن خلطة لا مثيل لها في الحياة الحزبية العصرية اليوم هي بمثابة صب الزيت على النار. قد نتذكر هنا أحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا حين روج بعضها لاشتراكية مسيحية في القرن التاسع عشر، ولكن تطور الأحداث تجاوزها وأبرز مدى تهافتها خاصة وأن ارتباطها بالمسيحية ترافق مع العداء للعلمانية والماركسية وحتى اللبرالية وهو ما جعلها لا تصمد أمام إلحاح مطالب الحداثة. لهذا فإن تأسيس حزب ديمقراطي اشتراكي إسلامي يأتي كمحاولة لبعث الحياة في شعار “الإسلام هو الحل” الذي يعرف انحسارا في الثقة خاصة عند الجماهير التي ابتليت به في إيران والسودان والجزائر وغزة فلم تجن إلا الخيبات المصحوبة بالإرهاب؟
كذلك فإن ربط هذا الحزب بادعاء “حل قضية “المواطنة” الشائكة والحساسة والملتبسة”، ربط غريب في مجتمع كمصر حيث توجد أقلية مسيحية هامة تقدر بالملايين من المواطنين لا بد أنهم سينظرون إلى هكذا حزب نظرة مريبة. وهو ما سوف يزيد من زرع الأشواك في طريق المواطنة كما يزيدها حساسية والتباسا.
ويواصل الكاتب هذا التعتيم فيقول: “ولابد أن نعلم أن “الحكم السليم” لا يمكن أن يكون محددًا معلوم الأبعاد كما لو كان ثوبًا يمكن أن تلبسه أي دولة فينطبق عليها، لأنه يتوقف على عدد من العوامل يختلف بعضها عن بعض في الدول”.
ألا يعني تشكيكا غير معقول في إمكانية وجود إجماع وطني على مجموعة من القيم أو المبادئ أو الآليات يلتزم بها الجميع من أجل ضمان التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع الواحد من طبقات وأديان وطوائف وأعراق؟ وهو حكم غير صحيح مادام قد تحقق في مجتمعات كثيرة.
طبعا خلطة الكاتب هذه بين الديمقراطية والاشتراكية والإسلام هي خلطة عويصة، فعلا قد يتمكن حاكم مستبد من فرضها لمدة معينة، وقد حدث فعلا مع أنظمة حكوماتنا القومية التي رفعت شعارات الديمقراطية والاشتراكية والإسلام كبديل لما اعتبرته ديمقراطية برجوازية في العهود الملكية أو حتى الاستعمارية وكانت النتيجة أسوأ مما كان الحال قبل هذه “الثورات التقدمية” وهي ماثلة أمامنا حتى أن صار البعض يترحم على عهود الملكية والدكتاتورية وصار من المشكوك فيه في أوساط الناس عندنا تحقيق إجماع حول الديمقراطية بالذات، فمابالك بالاشتراكية والإسلام بسبب عمق الخيبات المترسبة.
الواقع أن البلاد التي تعرف الآن استقرارا وتنمية مستدامة وتداولا سلميا عل السلطة هي تلك التي استقر فيها إجماع مقبول استطاع الصمود أمام كل التحديات والخضات ولمدد زمنية معتبرة. هذا الإجماع لا نجد فيه إشارة للدين ولا للاشتراكية ولا للرأسمالية في دساتيرها ومواثيقها. أهم عناصر هذا الإجماع تتمثل في الديمقراطية والعلمانية والحريات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والفكرية. أما الاشتراكية وبعد أن فشلت تجربتها التي أرادت فرضها بسلطة الدولة وهيمنة الحزب الواحد فهي اليوم تعرف تحولات عميقة في استراتيجيات أحزابها. الأحزاب الاشتراكية وخاصة الشيوعية في أوربا مثلا لم تعد تهدد هذا الإجماع بعد أن تخلصت من فكرة دكتاتورية البروليتاريا ومن تصور لنظام اقتصاد لا يقبل التعايش مع غيره وقبلت بآلية التداول على السلطة ومختلف الآليات الأخرى مثل اقتصاد السوق ومختلف الحريات.
فكيف يتعامل الكاتب مع هذه الحقائق والوقائق؟
يقدم الكاتب نموذجه للحكم السليم فيقول: “وبصفة عامة فيمكن القول إن الحكم السليم، هو الذي:
“(1) يحقق التجاوب مع خصوصيات الدولة فكل دولة لها خصوصيات تعود إلى تاريخها وموقعها وجغرافيتها.. الخ، لا يمكنها أن تنفك عنها ولابد لنظام الحكم أن يتجاوب معها بحيث يحول دون أن يطمس النظام هذه الخصوصية وفي الوقت نفسه لا يجوز لهذه الخصوصية أن تطمس بقية العوامل”. انتهى.
هذا القول لا تؤيده التجربة الحزبية الديمقراطية اللبرالية. الخصوصيات الوطنية هي التي تأقلمت مع مطالب الديمقراطية والعلمانية وليس العكس. الممارسة الديمقراطية هي هي في جميعها، في أهم خصائصها: الاحتكام الدوري للشعب، الأغلبية تحكم والأقلية تراقب وتتطلع للحكم، التداول سلمي، نزاهة الانتخابات وشفافيتها، حريات واسعة، علمانية محققة بما تعنيه من إبعاد الدين ورجاله عن لعب أي دور مهيمن ومباشر خارج مجالهم الديني.
ومع ذلك عمل السيد البنا على طمس بعض خصوصيات الدولة المصرية التي “تعود إلى تاريخها وموقعها وجغرافيتها.. الخ.” حسب تعبيره، عندما ركز على الإسلام فقط كخصوصية مصرية في قوله: “عندما أتمسك بصفة “الإسلامي” فهذا يعود إلى …(أن) منطقتنا منطقة إيمانية، كانت إيمانية من أيام قدماء المصريين وكان الدين محور حياتها”.
يقول هذا وكأن هذه الحقيقة اختص بها الشعب المصري وحده دون سائر شعوب المعمورة وبالتالي فطريقه نحو الخلاص لا بد أن يكون فريدا من نوعه ثابتا ثبات الجبال. ثم هو بهذا لا يرى الدين إلا في الإسلام، تأييدا لحكم القرآن “الدين عند الله الإسلام”.
وطبعا كل حزب يمارس هذا التمييز هو حزب عنصري في الصميم وخارج عن الإجماع المنشود لأنه سيقصي من صفوفه جانبا هاما من المواطنين عبر الحط من خصوصياتهم لصالح خصوصية مهيمنة لا يرونها تعبر عن هويتهم وطبعا أية دولة حديثة تحترم كرامة مواطنيها وتسهر على الوئام المدني بين ربوعها لا بد أن تمنع قيام هكذا حزب. وحتى له أضاف الكاتب أية خصوصية دينية أخرى فلن يزيد الوضع إلا تأزما لاستحالة التوفيق بين الأديان كسياسة دولة ولهذا كانت العلمانية ضرورة حضارية وعنصرا هاما من عناصر الإجماع المطلوب.
ولهذا فقوله بأن الحكم السليم لكي “يحقق المعاصرة فلابد .. أن يعيش في عصره خاصة وأن العالم الآن أصبح عالمًا واحدًا ولا يمكن لدولة أن تتحرر من الضرورات التي تفرض نفسها على الدول، وأي نظام حكم لا يلحظ ذلك فسيكون متخلفاً”. هو قول غريب، فكيف يتحدث عن المعاصرة بينما يعود بنا أربعة عشر قرنا إلى الوراء ليستمد من مرحلة تاريخية بائدة خصوصية دينية تجاوزتها الدولة المعاصرة. ثم ما الفائدة من القول بأن العالم أصبح واحدا إذا كان يدعونا إلى مزيد من الانغلاق ضمن خصوصية لم تعد تحظى بالإجماع حتى في وطن واحد يهيمن عليه مذهب واحد كما هو الحال في بلدان شمال أفريقيا (المذهب السني المالكي).
ثم يعود ليضع مزيدا من الأشواك في طريق الحكم السليم الذي عليه أن “يطبق قدر الطاقة القيم الموضوعية التي يقوم عليها الحكم الرشيد، مثل العدل والحرية والمساواة والمعرفة ويتوصل إلى إيمان الفرد بها وخير الطرق هو الدين بالدرجة الأولى لأن إيمانه أعمق الإيمانات”.
فنحن نعرف من خلال نصوص الإسلام وتطبيقاته أنه يخلو مما يمكن الاعتداد به في مجال العدل والحرية والمساواة كما نفهمها اليوم حيث لم يعد مقبولا التمييز بين المسلم وغير المسلم وبين المرأة والرجل وبين السني والشيعي والبهائي والإباضي والدرزي وغيرهم رغم أن هذا التمييز من صميم الدين الإسلامي …. أما في مجال المعرفة فرجال الدين غير مستعدين للتخلي عن احتكارهم للمعرفة باعتبار أديانهم المصدر الأوحد والأصح لها، واضطهاد العلماء ونفيهم وحرق كتبهم لم يسلم منه أي تاريخ ومازالت مؤسساتنا الدينية تمارس هذه الحرفة. والقرآن نفسه يزخر بكم هائل من الشواهد التي تقمع حرية الفكر والحق في الاختلاف وإبداء الشك كما يخلو من أي ضبط دقيق لمعرفة يمكن اعتبارها علمية دقيقة. هذا تسبب قديما في خلافات فلسفية وكلامية ومذهبية بعضها كان مثمرا لكنها جميعا كانت تعتمد في دحض مواقف خصومها على نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف (الصالح)، لكن أغلب الخلافات كانت تنتهي بتصفية الخصوم.
ثم يقول الكاتب كلاما جميلا لا اعتراض عليه مثل: “وإذا قلنا إن هذا الحزب “ديمقراطي” وبدأنا بهذه الصفة فهذا لأننا نأخذ من الديمقراطية ما نراه أفضل وأهم خصائصها ألا وهو الحرية في الفكر والتعبير والمساهمة الفعلية للجماهير في إقامة وتسيير الدولة. فضلاً عن أنها تحقق المعاصرة، فالعالم كله يأخذ بالديمقراطية”.
ومثل “ونحن نؤمن بالحرية إيماناً تامًا لا يخالجه أقل شك ونرى أنها باب التقدم ومناخه، وأنها للمجتمع مثل الهواء للإنسان، فإذا امتنع الهواء مات الإنسان وإذا امتنعت الحرية اختنق النظام، ونحن نرفض كل التعلات والأسباب التي يقدمها أعداء الحرية، لأن الحرية تصلح نفسها بنفسها، كما أن المشاركة الجماهيرية هي الميزة العملية التي حققتها الديمقراطية بكفاحها الطويل ضد الملوك الذين كانوا يحكمون بحق إلهي”.انتهى
رغم ذلك فيمكن تصنيف دعوته إلى إقامة حزب إسلامي ولو طعّمه بالديمقراطية والاشتراكية، ضمن مبدأ الحق الإلهي الذي يرفضه. ونقطة الضعف في هذا المطلب هو أن رجال الدين عملوا دائما على تطويع الأديان لتبرير الاستبداد، لأن الأديان تقبل هذا التطويع بسبب قابلية نصوصها للتأويل الواسع ومطاطيتها من جهة وكون الكتب السماوية، بما فيها القرآن، لم تول المسألة السياسية أهمية تذكر رغم خطورتها في حياة المجتمعات. فمن بين 6236 آية قرآنية لا نجد إلا آيتين أو بالأحرى مقطعين في آيتين، يمكن الاعتداد بهما في مجال إدارة السلطة وظلتا نسيا منسيا حتى العصر الحديث عندما نفض الإسلاميون عنهما الغبار لاستثمارهما في حربهم على نظام الحكم الحديث: “وأمرهم شورى بينهم”، “وشاورهم في الأمر”. أما الحديث عن معنى الشورى وكيفية ممارستها وما هي آليات هذه الممارسة، فهو حديث خرافة في تاريخنا خاصة عندما نتذكر أن فقهاء الإسلام لم يكونوا يرون في هذه الشورى رغم ضبابيتها لازمة من لوازم الحكم إلا في شكل جماعة الحل والعقد الذين يختص الحاكم بتعيينهم دون أن يكون ملزما بمشورتهم ولا بالأخذ برأيهم على رأي عمر في النساء “شاوروهن وخالفوهن”.
النتيجة أن هذا الإسلام الذي يدعونا إلى حشره في الحياة الحزبية لبلداننا ا ليس هو إسلام الكتاب والسنة ولا هو إسلام الحركة الإسلامية الراهنة ولا هو الإسلام المعتدل الذي يدعو إليه البعض.
السيد جمال البنا يدعو كذلك إلى ديمقراطية أجاد وصفها، وهذا في حد ذاته نقلة هامة في الفكر الإسلامي عنده بعد عشرات السنين من العداء لها من طرف إخوانه المسلمين ابتداء من أخيه الأكبر حسن البنا إلى القرضاوي وتكفيرها ومعارضتها بالشورى أحيانا وبالحكم الإلهي في أغلب الأحيان (إن الحكم إلا لله) وليس للشعب. ومع ذلك لا يريد الكاتب أن يتخلص من التحفظات عليها التي تنسف كل دفاعه عنها. نقرأ له: “ولكن تحليلنا للديمقراطية المعاصرة أدى بنا للاعتقاد أن الديمقراطية المعاصرة ليست إلا الوجه السياسي للرأسمالية وأنها نقلت كل خصائص الرأسمالية الحسنة والسيئة. فهي تقوم على الفرد وتتمسك بحرية العمل، وهي محايدة بالنسبة للقيم وتتجاهل العدل، كما أننا نرى أن نقطة الضعف التي تؤتى منها الديمقراطية هي آلياتها مثل الأحزاب، والانتخابات القائمة على أساس دوائر جغرافية، والظن أن صندوق الأصوات هو الممثل لإرادة الشعب حيث أن التجربة العملية أثبتت وجود ثغرات جسيمة في هذه الآليات تنعكس على أدائها بحيث لا تحقق الغرض المطلوب، ولا يمكن الاقتصار عليها والتسليم بها”.
ويقول: “ومع أن إيماننا بالديمقراطية إنما جاء لأنها توفر الحرية، فإن استقراء التاريخ يوضح لنا أنها يمكن أن تعصف بالحرية، وأن الديمقراطية الأثينية قد حكمت عن طريق قضائها الشعبي على سقراط بالموت، وفي مواجهة هذه الظاهرة التي تتكرر، فإننا في ديمقراطيتنا نتمسك بحرية الفكر والتعبير، وأنه لا يجوز حتى للأغلبية المساس بها، لأن الحرية أصل رئيسي في الديمقراطية”.
لنفكك هذه التحفظات ومدى معقوليتها:
يتحفظ الكاتب على الديمقراطية عندما يقول: ” ولكن تحليلنا للديمقراطية المعاصرة أدى بنا للاعتقاد أن الديمقراطية المعاصرة ليست إلا الوجه السياسي للرأسمالية”. رأيي أن الكاتب يغفل حقيقتين: أولاهما أن مجتمعاتنا ما زالت لم تحقق النزر اليسير مما حققته البلدان التي سادت فيها الديمقراطية المعاصرة (الرأسمالية) في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية وخاصة العلمية، تمكنها من إطلاق طاقات الإبداع والاختراع والاكتشاف والفتوحات العلمية التي تدين كل البشرية لها. وحبذا لو شاركنا ولو بقدر ضئيل فيها ليكون من حقنا المشاركة في التفكير في بدائل أخرى لها. وبالتالي فنحن مطالبون بالتواضع الشديد والاعتراف بالجميل والنهل من هذه الخبرة العالمية المذهلة حتى نكون أهلا لنقدها والتحفظ على بعض جوانبها السلبية، وهي موجودة فعلا باعتراف أهلها. موقف الكاتب وغيره بمن فيهم بعض اليساريين في العداء للديمقراطية اللبرالية يخدم الاستبداد أكثر ويحرف نضالات الجماهير.
وثانيهما، أن الديمقراطية إنجاز برجوازي بامتياز، بعد أن تمكنت هذه الطبقة الخلاقة الحديثة النشأة من اختصار مراحل تاريخية وحققت في قرنين فتوحات مذهلة في جميع الميادين لم تتحقق في عشرات القرون من الحكم الديني والقبلي والعبودي والإقطاعي.
والتحفظ الثاني للكاتب نلمسه من قوله: “فهي (يقصد الديمقراطية بوصفها الوجه السياسي للرأسمالية) تقوم على الفرد وتتمسك بحرية العمل، وهي محايدة بالنسبة للقيم وتتجاهل العدل، كما أننا نرى أن نقطة الضعف التي تؤتى منها الديمقراطية هي آلياتها مثل الأحزاب، والانتخابات القائمة على أساس دوائر جغرافية، والظن أن صندوق الأصوات هو الممثل لإرادة الشعب حيث أن التجربة العملية أثبتت وجود ثغرات جسيمة في هذه الآليات تنعكس على أدائها بحيث لا تحقق الغرض المطلوب، ولا يمكن الاقتصار عليها والتسليم بها”.
ورأيي أن ما يراه الكاتب نقاط ضعف هي في الحقيقة نقاط قوة في هذه الديمقراطية (الرأسمالية)، بعد أن قهرت المؤسسات الاستبدادية والدينية القروسطية ذات المنحى الاستتباعي وألغت احتكار المؤسسات الدينية للمعرفة والسياسة وحررت قوى الإبداع الكامنة، فقبل ذلك لم يكن للفرد اعتبار إلا كتابع للقبيلة أو العشيرة أو الإقطاعية أو الملة أو الطائفة الدينية على رأي الشاعر العربي القديم (وما أنا إلا من غزية إن غزت … أغز وإن ترشد غزية أرشد). هذه الديمقراطية حققت المواطنة التي تقوم على الفردية، أي على قيام الفرد كذات مسئولة عن نفسها أمام الدولة وليس كتابع مغمور لمؤسسة تقليدية مهيمنة تمثله كقاصر أبدي. وكلنا نعرف أن الثورة الصناعية بدأها أفراد وجماعات مهمشة مغضوب عليها في مدن هامشية على أطراف الإقطاعات بمهن كانت محتقرة مثل الحدادة والنجارة والنساجة وغيرها ومنها حدثت النقلة النوعية.
ثم ما العيب في كون هذه الديمقراطية (الرأسمالية) محايدة بالنسبة للقيم؟ هل هي دعوة ضمنية للكاتب للاستمرار في وصاية الدولة على الأخلاق وعلى ممارسة الناس لحرياتهم عند تناقضها مع قيم فرضتها العادات والتقاليد والأديان وشرّعت لها عقوبات الرجم والجلد والنفي والحرمان من الغفران والخلود في نار جنهم؟
أما أن يقول الكاتب بأن هذه الديمقراطية (الرأسمالية) “تتجاهل العدل”، فهو قول يغفل أن كل المحاولات الدينية وغير الدينية لنشر العدل قد باءت بالفشل، وأفضل المجتمعات التي تتمتع حاليا بقدر محترم من العدل والكرامة الإنسانية هي بالذات المجتمعات التي تسود فيها هذه (الديمقراطية الرأسمالية). لماذا؟
الكاتب، مثلا، أشار، في مقال سابق، إلى عدالة عمر بن الخطاب كنموذج يدعونا الإسلاميون إلى احتذائه، ورغم تحفظي على هذه العدالة الوهمية في عصر كان يبيح الرق، ومجاراة مني لهذا الزعم، أتساءل: لماذا تعثرت هذه (العدالة العمرية)؟ لماذا أمكن للملك العضوض، كما يقول الكاتب، أن ينجح في أغلب فترات الحكم الإسلامي؟ أليس أهم سبب هو قيام السياسة في تلك المجتمعات على الحكم الاستبدادي المستند إلى العصبية القبلية والعرقية والدينية المنتفعة منه والمستندة على الغلبة والقهر وعلى المشاركة الحرة لمجتمعات تتشكل من أفراد أحرار وليس من شعوب وقبائل كما يقول القرآن؟