محمد حسن فلاحية
لن تجد قبيلة عربية واحدة تسكن الأحواز دون أن تعثر على فروع لها في العراق وهذا الأمر ينطبق على جميع الدول العربية من موريتانيا الى عُمان، وإنّ جميع القبائل العربية تعيد نسبها الى الجزيرة العربية من هنا جعل هذا الترابط العرب كالوشيعة متماسكاً بخيوط العشيرة والطائفة والبطون والأفخاذ.
وعلى هذا الأساس فإنّ المساعي الحثيثة التي يبذلها البعض من المؤرخين والنسّابين العرب خاصة في العراق والأحواز للعودة الى الجذور العربية القبلية لتشكيل وحدة مجتمعية ينظر لها العبض من المثقفين وعلماء الإجتماع بعين الريبة ويعتبرون الخطوة على أنها محاولة ستبوء بالفشل بسبب التغيير الذي طرأ على المجتمعات العربية من الناحية المدنية والمجتمعية فقد باتت القبيلة شئ من التراث حسبما يرون يجب زيارتها في متاحف التأريخ العربي لكن مازال مؤيدوا القبيلة يصرون على مواقفهم بأن القبيلة مازالت تنبض بالحياة وأنّ المجتمعات العربية مازالت قبلية رغم المدنية والتغيير الديمغرافي الكبير الذي حدث في العالم العربي.
يبدو أن هذه التجاذبات مستمرة فإنّ الرأيين فيهما شئ من المبالغة لأن القبيلة لم تصبح بعد من أخوات كان وكذلك فهي لا تلعب الدور الذي يرغب به مريدوا القبلية ولكن يبدو أنّ النزعة القبلية قد خفت في المجتمعات العربية ودورالقبيلة قد تراجع نحو الأرياف والقرى في معظم الدول العربية سوى بعض الحالات النادرة التي مازالت فيها القبيلة تقول كلمة الفصل في العراق ومجتمع مثل المجتمع الأحوازي واليمن وحتى السعودية وبعض دول الخليج العربي بسبب الظروف الإجتماعية والسياسية التي مرت بها تلك المنطقة ولا يمكن الخوض بها هنا ونتركها للباحثين ومتابعي القضايا المجتمعية في تلك البقعة من العالم.
إنّ العراق والأحواز كلمتان مترادفتان بسبب التلاصق الجغرافي والإنطروبولوجي بين الشعبين فكثير من العرب الذين التقيت بهم عندما يسألونني عن موطني وأقول لهم بـأني “أحوازي” يجيبون “هل أنت عراقي؟” عندما أقول لا، يبادرون بالقول؛ نعم عرفنا أنك من عرب الأحواز جنوب إيران تعانون إضطهاداً قومياً ولأنكم سنة وعرب تمارس الحكومة الإيرانية تمييزاً ضدكم.
لعل هذه الحوارات خير دليل يوضح الترابط بين المجتمعين العراقي والأحوازي لكني هنا لا أبحث عن التأريخ والقصة التأريخية وما ساهمت به من غصص بقدر ما أبحث عن مشكلة التباعد والتقارب الحدودي القبائلي بين شعوب المنطقة.
وصلني قبل أيام كتاب “قبائل كعب : من الماء الى الماء” قد تم نشره في بيروت عام 2007 من قبل الكاتب العراقي “عقيل أبودايم الكعبي” الذي يسكن في ولاية مشيغن الأمريكية ورأيت فيه خير نموذج لقراءة طبيعة الوحدة القبلية بين العرب عموماً والأحوازيين والعراقيين على وجه الخصوص والتي يسعى اليها عدد كبير من الباحثين ومن بينهم مؤلف الكتاب المذكور.
ومسعى مني للبحث عن إجابة حول التساؤل المطروح: “هل الوحدة القبلية بين العرب ناجعة في عصر العولمة؟” وجدت بعض الإجابة في هذا الكتاب وغيره من الأبحاث والكتب التي تناولت الموضوع مع قلتها إن لم أقل ندرتها.
إنّ العلاقات التأريخية بين العراق والأحواز لا تقتصر على التقاسم القبلي بين البلدين بقدر ما هي تعود الى أعماق التأريخ من حمورابي وعيلام وكلدة وأشور ومرحلة ما بعد الإسلام الى يومنا هذا. فحتى التشابه يضرب في أعماق تأريخ، المنطقتين من خلال الحضارة والمسلات والزقورات في بابل وسوس فمن المعروف أنّ مسلة حمورابي تم اكتشافها في سوس عاصمة العيلاميين في الأحواز وهنالك عدة أثار تم العثور عليها في مناطق أحوازية وعراقية تعود لحضارات بلاد الرفدين وحضارة عيلام.
وليس هذا فقط بل أنّ الطبيعة تتقاسم بينهما والعلاقات والجغرافيا أيضاً فمثلاً شط العرب يحتضن ماء دجلة والفرات ونهر كارون في نفس الوقت. وإذا ما عدنا للمجتمع البشري فالدولة كانت متشابكة بين القطرين فعلى سبيل المثال فإنّ الدولة المشعشعية وعاصمتها الحويزة كانت تضم جنوب العراق علاوة على الأحواز كما هو الحال بالنسبة للدولتين الكعبيتين الأولى والثانية (إمارة البوناصر والبوكاسب الكعبيتين في الأحواز) كانت تضم معها مناطق عراقية وأحوازية في نفس الوقت.
وإذا ما عدنا الى القبيلة والدولة فإنّ كتاب “قبائل بني كعب : من الماء الى الماء” لمؤلفه عقيل الكعبي ينوي التركيز على الإمارتين الكعبيتين الأحوازيتين (إمارة كعب الفلاحية وإمارة كعب المحمرة) من منظار القبيلة والترابط بالدم والنخوة القبلية بين الشعبين الأحوازي والعراقي ويحاول الكاتب مد جسور القبيلة الى الدولة من خلال جعلهما دولتين كعبيتين تمثلان كعب في كل العالم رغم تمثيلهما لكعب وغير كعب من الأحوازيين (الذين يتألفون من عدة قبائل كبرى مثل: بني طرف وبني تميم وربيعة “الزرقان والباوية” وبني أسد والسادة القرشيين وبني خالد وشمر والزبيد وآل كثير وبيت المحسن العلماء والفقهاء في الدورق وغيرهم) من هذا المنطلق يفخر الكاتب بانجازات إمارتي كعب وحضارتيهما وما قدمتهما للعرب من خلال القوة البحرية التي قام بتأسيسها شيخ سلمان الكعبي أمير كعب (الإمارة الكعبية الأولى) ووقوفه سداً منيعاً بوجه الطغات عبر تأسيس القوة البحرية الأولى في الخليج العربي ويعيب على البعض اطلاق صفة “شاطئ الهدنة، شاطئ القراصنة أو شاطئ الصلح” على الشاطئ الذي كان تحت سيطرة إمارتي كعب بسبب طردهما للغزاة والمحتلين آنذاك (برتغاليين أو فرس أو بريطانيين) فكعب الدولة والقبيلة كانت تخضع لضغوط إقليمية ودولية كثيرة بسبب مواقفها وهذا ساعد على سقوطها ايضاً.
أما بشأن الضغوطات فقد كان “وليام اندرو بريس” الذي كان مسؤلا عن الوكالة الانجليزية بالبصرة آنذاك فيهاجم الشيخ سلمان الكعبي ويصفه بصاحب التصرفات الوقحة ويطالبه فيها المدد من الإسطول الإنجليزي وأنه يسير عن الطريق وترك الخيار للانجليز بحرق وتحطيم ما قد يقابله أي شيء يخص الكعبيين كما يعتبر الوالي العثماني بأن تحطيم قوة بني كعب يعد مفخرة للامة البريطانية. هكذا كانت إمارة كعب تواجه فيها أعدائها فكيف لا يصفهم هؤلاء بقراصنة؟
يرى بعض المؤرخين “الكسندر دوكلاس” الوكيل الانجليزي في بندر عباس أصدر عام 1761 أوامره الى عدد من السفن الحربية التابعة لشركة الهند الشرقية بأن تشترك مع السفن الحربية العثمانية في مهاجمة دولة بني كعب ومحاولة تحطيم سفنها المسلحة الراسية في خور موسى؛ الا أن الأسطول الكعبي الحربي تمكن من إلحاق أكبر هزيمة شهدتها الدولتين العثمانية والإنجليزية في الخليج العربي ويقول “ج. ج. لوريمر” في موسوعته” دليل الخليج” بأن أسطول بني كعب تمكن من اللحاق بالسفن الحربية البريطانية حتى مضيق باب السلام (هرمز) وتمكن رجال بني كعب من أسر قبطاني السفينتين الحربيتين “فورت وليم” و”سالي” وجر تلك السفينتين الى نهر الكارون، واستعمل الشيخ سلمان الكعبي القسوة مع الجيش الإنجليزي حيث كان يقطع أيدي وأذن الجنود ويعيدهم من حيث جاؤا فدب الرعب في صفوف الإنجليز والعثمانيين وذاع صيته في عموم أوربا.
ويرى مؤلف كتاب “قبائل كعب” أنّ امتداد قبائل كعب يبدأ من الأحواز مروراً بالعراق الذي يشهد أكبر تجمع سكاني للقبيلة ووصلاً الى الجزيرة العربية وهي مسقط رأس القبيلة على الرغم من امتدادها الجغرافي الشامل من البحرين والكويت والإمارات الى مصر وموريتانيا ودول شمال أفريقيا.
لكن كعب الأحواز يلقون حصة الأسد في دراسة “قبيلة كعب” بسبب تشكيل إمارتين كعبيتين في منطقة الأحواز من منتصف القرن الخامس عشر حتى 1925 السنة التي تعرض أمير كعب فيها للأسر على يد الملك الإيراني الأسبق (رضا بهلوي) بمباركة بريطانية واستشهد عام 1936 في طهران خنقاً في سجون الحكومة الإيرانية ونقل جثمانه الى النجف 1945 ولم يسلم قبره حتى من أحقاد أعداءه فتعرض للهدم خلال (الإنتفاضة الشعبانية) عام 1991 وهدم القبر بالكامل في مقبرة العائلة في النجف لمحو أي أثر لهذا الأمير العربي الشهير.
كانت لكعب الإمارة والقبيلة عدة أحلاف منها مع القواسم (شيوخ إمارة الشارقة) وتحالف مع حكام الكويت (أل صباح) والسعودية (أل سعود) ولأمير كعب المحمرة الشيخ خزعل مواقف دولية ووطنية بالنسبة للقضية الفلسطينية التي وقف بجانب الشعب الفلسطيني من خلال دعوة مفتي القدس الحسيني وتأكيده بالوقوف مع أهل فلسطين في الوثائق التي صدرت وكذلك للرجل مواصفات رجل لدولة في كتاب “ملوك العرب” للرحالة اللبناني “أمين الريحاني” وقصائد الشاعر السوري المعروف “عبدالمسيح الانطاكي”.
وأمير كعب هذا كان شاعراً وأديباً لديه ديوان مطبوع “الرياض الخزعلية” ويتقن لغات عدة مثل الإنجليزية والفارسية ولديه علاقات ومواقف نبيلة بالنسبة للطوائف الأخرى غير المسلمة مثل الأثووريين والكلدان والصابئة وقد سمح لهم ببناء كنائس في المحمرة والأحواز ويرعى مسائلهم ولديه علاقات مع الكنيسة الكلدانية في العراق.
بعد سقوط الدولة الكعبية الثانية – إمارة المحمرة وسيطرة الفرس على أراضي كعب تشتت مواقف كعب تبعاً لذلك الإنهيار فلم تستطع القبيلة توحيد مواقفه لاختيار أمير يمثل القبيلة فانتقلت الإمارة بعد استشهاد خزعل في سجن الفرس بطهران الى أحد أحفاده وهو كاسب خزعل الكعبي (أبو نغم) وانتقلت الإمارة الى كعب العراق بعد رحيل الأخير الذي شتت رحيله موقف كعب أكثر مما كان عليه فاليوم مواقف القبيلة منقسمة بين المؤيدين للشيخ “خالد علي آل جبر” و”نصار الشيخ خزعل الكعبي”.
يرى عقيل الكعبي في كتابه أنّ بني كعب من أعرق القبائل العربية الأصيلة العدنانية من هوازن وأجمع الباحثون وأكدت المصادر الموثوقة بأن قبائل الأفلاج في العصر الجاهلي وما بعده هم بنوكعب بن ربيعة بن عامر) وهم: (جعدة وقشير والحريش وبنو عقيل). بنو كعب بادية وحاضرة كما ذكر البكري: ”إن قبائل بني عامر بن صعصعة كثيروا الترحال فقد كانوا يصيفون في الطائف لطيب هوائها وثمارها ويشتون في بلادهم من أرض نجد لسعتها وكثرة مراعيها وإمراء كلئها”. (**) وبنو كعب أهل شعر ورجال حرب “أنساب العرب”. قال بن بسام في بني كعب ”ذووا الطعن والضرب سماح النفوس جمال الطروس ذو الجاه العريض وأساة المريض والكرم الجم والحلم الأتم.”
بنو كعب هم من ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان، هاجرت قبيلة بني كعب منطقة نجد ومنها من ذهب إلى العراق وقد حكموا الأحواز تعتزي قبيلة كعب بـ(أولاد عامر) وهي عزوة قبيلة سبيع الغلبا نظرا لكون القبيلتين ترجعان لعامر بن صعصعة.
إذن، لا مفرّ من الوحدة القبلية بين العراق والأحواز بسبب الترابط المجتمعي والقبلي بين الشعبين فمن أجل مناصرة قضية الشعبين والحفاظ على الإمتدادات التأريخية والحضارية والتجانس بين الهويتين يجب الحفاظ على العنصر القبلي لكن شريطة أن تكون هذه البوابة مشرعة أمام القضاء على العصبية والنزعة القبلية المدمرة وأيضاً للقضاء على الطائفية المقيتة لاستخدام هذه الظاهرة في عصر العولمة كبوابة تفتح باب التقارب والأخوة بين شعوبنا التي باتت في أمس حاجة لمثل هذه المقومات.
ولأضفاء الأهمية على بحثنا ننقل عن الأستاذ على نعمة الحلو صاحب المؤلفات التأريخية القيمة عن الأحواز كلمتان أملاها هاتفياً على صديقه البروفيسور الدكتور عبد الإله الصائغ في أميركا عام 2006 وقد نشرتهما موسوعة قبائل كعب “هي أنّ كعب العربية الأصيلة ذات المواقف التاريخية المدافعة عن العروبة في الأحواز وفي منطقة الخليج العربي، سجلت هذه القبائل تاريخاً حافلاً مجيداً من حق كل عربي أن يفتخر به”.
ويختم الحلو في كلمة خصّ بها موسوعة كعب التي يديرها الباحث “أبودايم عقيل الكعبي” قائلاً: “في الأحواز حيث أقامت حكماً عربياً وقف في وجه الأطماع الأجنبية التي كانت تريد شراً في منطقة الخليج العربي. وبرز فيها حكام من أمثال الشيخ سلمان بن سلطان الكعبي الذي هزم القوات الفارسية والبريطانية والعثمانية. ومنهم أيضاً الشيخ غيث الكعبي الذي استطاع بحكمته إسقاط معاهدة ”أرض روم الأولى“ عام (1821م).
دام حكم هذه القبيلة في مدينة الفلاحية عدة قرون، وكان لها أسطول بحري قوي تكون من سبعين قطعة بحرية ردعت به أطماع الدول المجاورة. وكان دوام هذه الإمارة عندما تأسست إمارة كعب في المحمرة في عهد الشيخ خزعل الكعبي. وأما آل بودايم الموجودون حالياً في قصبة الشنافية (الفرات الأوسط، العراق) فهم زعماء قبائل كعب الذين ساسوا أبناء عمومتهم في العراق سياسةً مبنيةً على المروءة وحفظ المواثيق، وهؤلاء يعودون بجذورهم القبلية إلى آل غيث (البوناصر) أمراء كعب في منطقة الأحواز، وقد هاجروا إلى العراق في حقبة حكم جدهم الشيخ غيث الكعبي، واستقروا في منطقة “لملوم” على نهر الشواك. وأسس جدهم حلف الـ”جبشة وعياش”، وهو حلف وثقه مؤرخو الأنساب. وقد ألفت كتاباً خاصاً عن قبائل بني كعب طبع عام 1968.”
الحوار المتمدن