في هذه الأيام الخريفية من كل عام و أنت تتجول في ضيعتنا ليلا ..
هناك في الأزقة الملتوية كخطوط خربشها طفل تعلّم لتوّه كيف يمسك القلم ..
هناك في الحارات القديمة التي تبدو كبيت واحد بمئات الأبواب و عشرات السطوح بمستويات مختلفة الارتفاع كأنك تنظر إلى رتل من التلاميذ من مختلف الصفوف ..
هناك تدلّك رائحة أليفة يعبق بها المكان على غرفة مهملة لاطية في دروة خلف درج أو في زاوية مهجورة أو في طابق أرضي يهرب من نوافذها دخان مستعجل الرحيل مع ريح شرقية تلاعب طشطا قديما أو قصّة أو برميلا بقّ لتوّه ما كان ابتلعه في جوفه منذ أكثر من شهرين بشكل خمير ملأ المكان برائحة الحموضة الواخزة.
ثلاثية الفضيحة الجميلة النور و الدخان و الرائحة تثير شهية الاستكشاف عندك فتدفعك قدميك غير مخيّر لتقتحم المكان بدون استئذان لعلك تضع حدّا لما أصاب حواسك من تشويش و اضطراب ، فتطل على مشهد ملأته الإشارات و الطقوس و كأنك في حضرة قدّاس لتجسيد مادة تتجلّى روحيا في نفس الإنسان .. إنه قدّاس الخمر ….. إنها الكركي ذائعة الصيت الشعبي .. و هيكل كهنة الخمر .. و محراب صلاة العنب يتلوها الندامى و العاشقون و الشعراء و الكافرون ….. و كم صعب على الخلّ أن يفهم صلاة العنب……(نزكي لكم مشاهدة هذا الفيديو: هكذا يصنع السوريون العرق من آلاف السنين وحتى الآن)
تدخل المكان و تلقي التحية بشهقة توّاقة للجلوس حول طاولة المناولة حيث يتبادل الميت و الحي النظرات , فثمة صحن أبيض على الطاولة مثل كفن يحضن عنقودا من العنب الأشقر الدامع على رحليه الأخير , من دموع الحزن هذه سيتجسّد مشروب الفرح ,فكم جميل نحيب العنب في تشرين و هتافه في أيار.
و حول الصحن تصطف كاسات الحيّ القيوم كاسات العرق الأبيض في رحلة أخيرة للون و المذاق , من الحصرم الأخضر الحامض مُسافرا في مركب الشمس إلى العنب الأحمر القرمزي و الأشقر و الأسود الحلو …. راحلا في تابوت الظلام و الاختناق إلى الخمير البني الغامق المرّ … متقمّصا على راحتي النار و البرودة إلى قطرات تعرّت من الألوان حيث تبدو متهيئة لجماع الماء في سرير الكأس في مشهد فضائحي لزواج المتعة ليولد الأبيض المزّ ديكتاتورا يتسلّط على الحواس الخمس حتى يشوّشها ,و فاتحا لبوّابات الجزر في بحر الدماغ المحاصرة بركام الخوف و العيب و الممنوع و المحرّم و النسيان حتى يحرّرها ….
هنيهة و يتدحرج السؤال على لسانك لماذا حاربوه ؟؟؟؟
هل لأنه ديكتاتورا أم لأنه فاتحا مقداما أم لأنه مانح الألوان من حمرة العيون إلى حمرة الخدود إلى ألوان الغناء و الرقص و الزجل و الفكاهة و التفّلت و الإباحة.
أم لأن المرأة بَلَفت الرجل مرة ثانية للسقوط في الخطيئة و هذه المرة بشهادة و حضرة العنب و ليس التفاح , في المرة الأولى لتعرّي جسده و في الثانية لتعرّي روحه علّها تحنّن قلبه القاسي و تفكّ أسر نظراته من سجن الفضيحة و تحلّي لسانه الخشن و تحرّر أصابعه من ربطات العنق على أمل اصطيادها في طافوحة جسدها …
أم لأن الشعراء المتمردين أحبوه رفيقا لهلوساتهم و هذيانهم ….
أم لأن المضطهدين و المظلومين اختاروه فاتحة طريق لثورتهم ….
من يدري ؟؟؟؟؟؟
د. قيس جرجس – سوريا
#ريم_شطيح #قيس_جرجس #قرار_مجلس_النواب_العراقي_تحريم_الخمر