على الطريق المؤدية إلى الخليل من مدينة القدس، تشمخ مدينة بيت لحم التاريخية ذات الرمزية المسيحية، بكنيستها الأولى ومهد رسولها الفلسطيني وفدائيها الأول المسيح عيسى عليه السلام، التي تحتضن بالقرب من مقبرتها الإسلامية “قبة راحيل”، التي لا ينكر المسلمون أن نبي الله يعقوب عليه السلام قد دفن فيها زوجته راحيل، وهي أم يوسف عليه السلام، التي توفيت في هذا المكان بينما كانوا في طريقهم من القدس إلى الخليل، فعُرف المكانُ بها وحملَ فيما بعد اسمها، وأصبح كما كثيرٌ غيره في فلسطين بقعةً مقدسةً، ومزاراً دينياً يؤمه المؤمنون، ويحترم حرمته السكان والمواطنون، وفي المقدمة منهم الفلسطينيون، الذين يؤمنون والمسلمون جميعاً بكل الأنبياء والرسل، ولا يفرقون بينهم، من لدن آدم عليه السلام حتى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، مروراً بأبي الأنبياء والرسل أجمعين إبراهيم عليه السلام، وإسماعيل واسحق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
حافظ المسلمون على “مقام راحيل” واحترموا قدسيته ومكانته ولم يعتدوا عليه، بل وأضافوا عليه ما يحفظه ويقيه صروف الزمان وتقلبات الطقس واعتداءات المارة والعابرين وقطاع الطرق والمتشردين، وشيدوا حول المقام جدراناً وقبةً، ما زالت إلى اليوم باقية كيوم شيدها المسلمون قبل قرابة خمسمائة عامٍ، حيث أبقوا على المقام مزاراً مقدساً لليهود، ولم ينازعهم عليه المسلمون الذين كانوا واليهود سواء في فلسطين، يستمتعون معاً بحق المواطنة والعيش الكريم، ولهم في فلسطين حرية الاعتقاد والعبادة، والتملك والعمل والتجارة، فلا يعتدي أحدٌ منهم على الآخر ولا يمنعه، ما حافظوا على حقوق الجيرة وشروط المواطنة الصالحة، رغم أن البعض يعتبر أن المقام إسلامي الهوية، وأنه قد بني على هذا الشكل في ظل دولة المماليك.
ومن قبل بنى المسلمون مسجداً في المكان الذي أذن وصلى فيه الصحابي الجليل بلال بن رباح، بينما كان في طريقه إلى القدس بصحبة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وأطلق الفلسطينيون على المصلى اسم “مسجد بلال” تيمناً بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي حافظ على حرمة المكان فلم يمسه بسوءٍ أو أذى، وصلى بالقرب منه ولم يعتدي عليه، وبقي المصلى على مدى القرون الخمسة عشر للمسلمين مسجداً، والمقام لليهود مزاراً، حتى أن ثرياً يهودياً إنجليزياً زار فلسطين في القرن التاسع عشر، وزار “قبة راحيل” في وقتٍ كانت فيه فلسطين خاضعة لدولة الخلافة العثمانية، التي لم تمنع المتبرع اليهودي رغم أنه أجنبي وغير فلسطيني من تحسين المقام، كما لم تمنعه من قبل من زيارته والتبرك به كما اعتاد اليهود على ذلك، حيث ألحق به غرفتين ما زالتا باقيتين وملحقتين به إلى اليوم.
إلا أن الكيان الصهيوني الذي لا يعرف غير الاغتصاب والاعتداء، والقتل والعدوان، والطرد والحرمان، ولا يقر بالحقوق ولا يعترف بالعهود، ولا يسلم بالحق ولا يلتزم العدل، قام بعد احتلاله للضفة الغربية في حرب يونيو عام 1967، ببناء ثكنة عسكرية بالقرب من قبة راحيل، عسكر فيها جيشه، وتنمر فيها جنوده، وطردوا الفلسطينيين منها بالقوة، وجعلوا من المقام ومحيطه منطقةً عسكريةً يهوديةً مغلقةً، لا يُسمح للفلسطينيين بالاقتراب منها أو الدخول إليها، رغم أن المسجد ما زال قائماً، إلا أن جيش العدو لا يسمح للمصلين الفلسطينيين بالدخول إليه والصلاة فيه، الأمر الذي جعل من المقام بؤرةً للاحتلال دائمة، يمارس فيها بحجة الدفاع عنها جريمة القتل والاعتقال، بعد أن زاد من مساحة المقام، وأضفى عليه صبغةً عسكريةً تامةً، حيث نصب الأسلاك الشائكة وبنى أبراج المراقبة العالية، نافياً عنها الطبيعة الدينية والمسحة المقدسة التي أُثر عنها، وورثتها الأجيال بهذه الصفة وحافظت عليها.
لم تكتفِ سلطات الاحتلال بإجراءات الأمر الواقع التي مارستها بقوة السلاح وإرادة الغلبة، بل قامت بعزل منطقة القبة كلياً عن مناطق السلطة الفلسطينية، ومعها مسجد بلال بن رباح الذي وضعت على مدخله لوحةً كتبت عليها باللغتين العربية والعبرية “قبة راحيل”، حيث أخرجتهما خلف جدار الفصل الذي بنته، كما قامت في 21 فبراير من عام 2010 بإدراج المقام والحرم الإبراهيمي في الخليل ضمن التراث القومي اليهودي، إلا أن منظمة الأونيسكو الدولية للعلوم والثقافة اعترضت في أكتوبر من العام نفسه على قرار الحكومة الإسرائيلية، وأكدت أنهما جزء من التراث الإسلامي الفلسطيني.
تخطط سلطات الاحتلال لمصادرة الأراضي الفلسطينية المحيطة بالمقام “قبة راحيل”، حيث تتطلع إلى بناء مستوطنة كبيرة، يرتبط سكانها بالمقام، ويتعاظم تمسكهم بالأرض ببركته، وهذا ما يدركه الفلسطينيون عامةً وسكان مدينة بيت لحم خصوصاً، ولهذا كثرت المناوشات والاشتباكات في محيط المقام، وكثف النشطاء الفلسطينيون من عمليات إلقاء القنابل والأكواع والمتفجرات المختلفة، لإجبار سلطات الاحتلال على تفكيك البؤرة العسكرية، وإعادة الأوضاع في المنطقة إلى ما كانت عليه قبل العام 1967، وفي محيط المقام استشهد وأصيب بجراحٍ مختلفة عشرات الفلسطينيين خلال المظاهرات والاشتباكات التي باتت تندلع دائماً بينهم وبين جنود الاحتلال، الذين يبالغون في هذه البقعة المتوترة دائماً من استخدام القوة المفرطة في مواجهة الفلسطينيين.
إنها أرضنا وهذا مسجدنا، مر فيها عمر بن الخطاب وصلى فيه بلال بن رباح، ولو كان فيها مقام راحيل والدة يوسف عليه السلام، التي نؤمن بها ونجلها ونحترمها، فنحن أحرص عليها من سلطات الاحتلال، وأكثر إيماناً بها ممن يدعون الانتساب إليها والعلاقة بها، وليوسف عليه السلام في إسلامنا قدرٌ كبيرٌ ومكانةٌ عاليةٌ، وله في قرآننا العظيم سورةٌ إلى يوم القيامة باقية، منه نستلهم العبر ونتعلم الدروس، وقد حافظنا على المقام قروناً طويلة وقمنا على خدمته سنين كثيرة، لم يمسه خلالها سوء، ولم تطاله يدُ البِلى والخراب، ولم تهدمه الحروب ولم تنل منه الكوارث والكروب، ولم يُحرم المؤمنون به من زيارته، ولم يمنعوا من التبرع له والعمل على صيانته، فهو في عهدتنا مصان، وتحت سلطاننا غير مهان، وبيننا باقٍ بحريةٍ لكل الأديان.
بيروت في 6/2/2017