قبل شهر تقريباً، فوجئ سكان بلدة صغيرة تقع في ريف حمص باختفاء عدد من الشبان مدة 48 ساعة. وبعد انتظار يومين أمضاهما الأهل بالاستفسار والقلق، عاد الشبان المغيّبون ليطمئنوا الجميع الى المعاملة الحسنة التي عاملهم بها أفراد الجيش السوري.
ثم تبيّن بعد حين أن عملية الاختفاء المفاجئ لعشرات الشبان لم تكن سوى وليدة حاجة قوات الأمن الى بناء حاجز حجري عند مدخل القرية، الأمر الذي فرض عليها طلب المساعدة المجانية. ولكن الطريقة التي جرت بواسطتها عملية استدعاء الشبان ذكّرت الأهل بنشاط عهد الاستخبارات بعد مرور سبع سنوات على «انتفاضة درعا».
يقول المراسلون في سورية إن هذه الواقعة ليست الوحيدة من نوعها، لأن السبعة ملايين لاجئ الذين فرّوا الى تركيا ولبنان والأردن ومختلف الدول العربية والأجنبية، ضمّت صفوفهم كل أصحاب الحِرف والمهن. لهذا السبب، تعرض قطاع التعمير وإعادة الترميم لفراغ كامل يصعب ملؤه بالمقاتلين الذين لا يتقنون سوى مهمة الدفاع عن النظام، مثل القوات الإيرانية والروسية واللبنانية (حزب الله).
صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية ادّعت أن عدد القتلى في سورية تعدّى نصف مليون نسمة، وأن عدد اللاجئين في الخارج والداخل وصل الى 14 مليوناً من مجمل عدد السكان البالغ 25 مليوناً. ولكن مكتب الإحصاء المركزي في سورية ذكر في نشرته الأخيرة أن عدد السكان حتى مطلع 2017 بلغ حوالي 24 مليوناً ونصف مليون نسمة.
وفي مطلع هذه السنة ادعت صحيفة «الوطن»، القريبة من النظام، أن نسبة الولادات داخل سورية لم تتغير، بل حافظت على النسبة العالية ذاتها، الأمر الذي يزيد عدد السكان على رغم الحرب.
ويبدو أن هدف النظام السوري من رفع نسبة عدد السكان تبديد الانطباع السائد بأن السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة التي ألقيت على السكان… إضافة الى غارات الطيران الحربي الروسي، كل هذه المبيدات لم تحصد نصف مليون نسمة، مثلما يدّعي المراسلون!
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب لقائه في سوتشي نظيره بشار الأسد، أن الوضع في سورية بات ملائماً لتفعيل العملية السياسية. وأتبع هذه الملاحظة بالتأكيد أن نفوذ الأسد بات يغطي كل المحافظات تقريباً، مذكراً طهران بأنه يمثل الجبهة الوحيدة المخوّلة من قبل الرئيس السوري بالإشراف على مراحل الانتقال السياسي.
ثم كرر من بعده المبعوث الخاص ألكسندر لافرنتييف ملاحظة رئيسه، مع التشديد على ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سورية بما فيها القوات الإيرانية. وعلى الفور علق على تصريح المبعوث الروسي الناطق باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، مذكراً بأن إيران بلد مستقل يرسم سياسته وفق مصالحه القومية في المنطقة والعالم. لذلك اعتبر أن قوات بلاده ستبقى في سورية ما دامت هناك حاجة اليها.
وكان من الطبيعي أن يكون ردّ فعل طهران على هذا المستوى من الحدّة والتحدي، باعتبارها تمثل أول بلد مساند للأسد (سنة 2012) وأول بلد ضحّى بأكثر من ألفي قتيل من أجل حماية رئيس يعترف بأن «حزب الله» صانه من الأذى.
لكن بوتين، الذي سارع الى إنقاذ الأسد سنة 2015 بعدما تراجعت إيران أمام انتصارات الميليشيات المعارضة، يرى في الوجود الإيراني عائقاً أمنياً وسياسياً وفرت له الحرب الأهلية السورية فرصة الوصول الى البحر الأبيض المتوسط، والى شق طريق بري يصل طهران بجنوب لبنان عبر العراق وسورية. كما يرى في الوجود الإيراني الطاغي داخل المؤسسة العسكرية السورية مصدر قلق متواصل، إن على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي… أو على مستوى الدول الأوروبية التي رفضت الاشتراك في حملة تمويل شركات البناء وإعادة الإعمار في المدن والقرى السورية المهدمة. وفي تصريحه الأخير، قدّر الأسد تكاليف إعادة البناء بمئتي بليون دولار، في حين توقعت الشركات المتخصصة أن موازنة الإنفاق على التعمير والترميم قد تصل الى 350 بليون دولار، والى مدة زمنية لا تقل عن سبع سنوات. والسبب أن مئات المدن والقرى الممتدة من حلب شمالاً الى حمص جنوباً قد تعرضت للدمار والتهجير.
وعلى الرغم من الإغراءات الاقتصادية التي قدمتها الحكومة الإيرانية لجذب دول الاتحاد الأوروبي، فإن العقوبات الأميركية جمّدت حركة التبادل التجاري وأوقفت عمل الاستثمارات الخارجية. ولم تكن العقوبات التي عرضها وزير الخارجية الجديد مايك بومبيو، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الخارجية (سي آي ايه)، سوى بداية قائمة طويلة لعدد كبير من القياديين في طليعتهم بشار الأسد.
والثابت أن الوزير بومبيو استند في انتقاء قائمته الى معلومات الوكالة التي تدّعي مصادرها أن النظام السوري سيتضرر في حال توقف الإنفاق السخي الذي توفره له إيران.
جاء في صحف أوروبية عدة أن بشار الأسد الذي يتقن فن البقاء يستغل الخلاف الروسي – الإيراني في الساحة السورية، لكي يجني بعض المكاسب السياسية تعينه على فرض خريطة ديموغرافية جديدة يضمن من خلالها استمراره في الحكم بعد انسحاب الكفيلين. وقد سخّر القوانين من أجل تحقيق هذه الخطوة التي تضمن لعائلته التفوّق والريادة في ظل طائفة رفضت استبدال رئيسها بأي رئيس آخر طوال فترة الحرب.
واعتبر القانون الرقم عشرة، الذي صدر في الثاني من نيسان (ابريل) الماضي، الواجهة الشرعية التي يتلطى وراءها النظام لإحداث التحوّل المطلوب. وهو قانون مطاط يقتضي تطبيقه فترة شهر واحد من تاريخ إدراج المنطقة المعنية. وأقل ما تطلبه الدولة في هذا السياق صكوك الملكية أو عقود الإيجار. وهذا أمر متعذر الحصول عليه بسبب إكراه المواطنين على الهرب الى الداخل أو الخارج، من دون حمل أوراق رسمية تثبت ملكيتهم المنازلَ أو الأرض أو العقارات الأخرى.
ويقضي القانون الرقم 10، في حال عدم تلبية مطالب الدولة، بمصادرة الأرض ونزع الملكية بحجة تطوير مشاريع العقارات. وهكذا ستصبح هذه الأراضي المصادرة أو معظمها من حصة الموالين للنظام.
أما السبب الحقيقي الذي يكمن وراء استنباط هذا القانون التعسفي، فهو إصرار النظام على منع عودة أكثر من 11 مليون مواطن الى البلاد. وتُجمع المعارضة على القول إن هذا العدد يمثل غالبية المواطنين السنّة (نحو 72 في المئة) الذين يرتاح النظام الى إقصائهم. وفي المحصلة النهائية، تتحول سورية الجديدة مجموعة أقليات مؤلفة من: العلويين والأكراد والتركمان والدروز والمسيحيين والشيعة والأرمن…
ومثل هذا الفرز الطائفي دشنه قبل فترة قصيرة قادة «الخمير الحمر» في كامبوديا وإنما على أساس عقائدي. ذلك أنهم أمروا كل سكان العاصمة «بنوم بنه» بالمغادرة. ثم عادوا فسمحوا لأنصارهم الشيوعيين فقط بالعودة الى منازلهم، في حين طردوا الآخرين، أو قاموا بتصفيتهم جسدياً.
قبل ثلاثة أيام، تصاعدت الاحتجاجات في الأوساط السورية على القانون الرقم 10 الذي يسمح بمصادرة أراضي المواطنين في حال لم يتمكنوا من إثباتها. ونبّهت نائب رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» ديما موسى الى الآثار السلبية التي سيتركها هذا القانون على الانتقال السياسي الذي نصّ عليه بيان جنيف.
كذلك وقّع قضاة ومحامون وممثلو منظمات دولية على عريضة رفعت الى الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، تناشده فيها بضرورة إصدار بيان يمنع تطبيق هذا القانون المجحف.
وبسبب التداعيات التي سيتركها هذا القانون في حال تنفيذه عملياً، حذّر الرئيس سعد الحريري، خلال مأدبة إفطار رمضاني، «من مخاطر هذه البدعة التي صدرت في سورية». وقال أيضاً: «هذا القانون يعنينا نحن في لبنان لأنه يطلب من آلاف العائلات السورية أن تبقى في لبنان.» ويُقدّر عددها بمليون وثمانمئة ألف نسمة، إضافة الى مئتي ألف طفل وُلِدوا منذ 2011.
بقي أن نذكر أن وزيراً لبنانياً صديقاً للرئيس الأسد حمل اليه اقتراحاً يقضي بإعادة النازحين السوريين على دفعات، كلما حلّ الهدوء والأمان في منطقة تسيطر عليها الدولة. وكان جوابه مقتضباً وحاسماً: كل مَن نزح الى لبنان أو الأردن أو تركيا من دون أن يمر على مخفر الأمن العام السوري للحصول على تأشيرة خروج… لن يُسمح له بالعودة الى سورية.
هذا الجواب يختصر مستقبل النازحين السوريين في لبنان.