في الصبا، عندما رأيت “فيروز” لأول مرة علي الشاشة تغني مزيجًا من أغانٍ بينها: “حبيتك في الصيف” ضرب حواسي شعور بالخوف، أشبه بشعور الخوف الذي يلازم الكثيرين في الأيام الأولي من موت أحد المقربين، ربما لأن استيعاب وجهها المنحوت بطريقة مختلفة تمامًا عن وجوه كل الذين كنت حتي ذلك الوقت أعرفهم كان أكبر من ذاكرتي، وربما لأن صوتها هو ما كان أكبر من ذاكرتي، كما قال لها “محمود درويش” يومًا ما!
بعد سنوات من ذلك اليوم صارت قوقعتي، وشرطي المهم لكسر المسافة بيني وبين الآخر، والمرأة المنهمكة بتمشيط شعرها الأشقر في أحلامي، والآن، بعد أكثر من عشرين عامًا علي معاشرتها, بوسعي أن أؤكد أنها امرأةٌ عسيرة المراس، مسيطرة, حدود عالمها لا تسمح بالمرور لكل الناس، عالمها أيضًا لا هو يمنح صكوك الإقامة فيه بسهولة ولا هو يسمح بالاحتفاظ بخطوط الرجعة، لكنه يستحق محاولات الهجرة إليه، فكل الذين حالفهم الحظ في اكتشافه نجحوا في التعرف علي أنفسهم جيدًا، امتلئوا بإحساس النهار، شعروا بنوع من الاكتفاء الذاتي، مع ذلك، ستبقي “فيروز” مغلقة علي سر ما، لعل هذا السر هو ما يجعلني أعترف، وبوصفي أحد دراويشها، أن بوسعها دائمًا أن تكون مربكة لسلامي الداخلي متي أصغيتُ لصوتها ولو لعدة ثوان وهو ينزف رائعة “جبران خليل جبران”: “أعطني الناي وغني”، لم يحدث أبدًا أن استمعتُ إلي بعض من هذه القصيدة، بصوتها، قبل أن يجلد روحي شعور بالغربة لا أعرف من أي نقطة غائرة في الأقاصي يهب!
لقد تغلغل شغفي بصوتها حتي جذور أعصابي، مع ذلك، لم أسمع أن الشغف بلغ بالعاشقين حد الذوبان في الحبيب حتي آخر قطرة إلا ما قرأت عن تجارب القليل من الصوفيين، ولا بلغ بالعاشقين حد الاتصال بآلام الحبيب إلا ما قرأت عن تجربة القديسة “كاترين السينائية”، هذه، قيل أنها توحدت بالمسيح إلي درجة الشعور بجراح الصليب في جسدها، وكل ما بعد قيل فهو دائمًا ضعيف!
مع ذلك، مرة أخري، لأني أفضل المناطق الرمادية، لا أري “فيروز” منزهة عن الخضوع للنقد، فلا أسود كامل ولا أبيض نقي البياض، لكن، ما أعنيه هو الخضوع للنقد بشروط أقل ارتباطاً بأمراض النفوس وبالرغبات، وفي إطار التجربة الرحبانية كاملة، أنا أيضًا، أري أن التجربة الرحبانية بها خاصرة رخوة يسعها الطعن من مكان قريب، وهي اعتقاد الأخوين “رحباني” أن العالم طيب بما يكفي، لم يأخذوا في اعتبارهم علي محمل الجد أبدًا أن الأشرار دائمًا في الجوار، وعلي هذه الخلفية، ليس بوسع أحد أن ينكر أن التجربة الرحبانية أهانت أفق التلقي الذي كان سائدًا قبلها وأسست لأفق جديد، نجحت في تطوير دلالات العامية إلي حد صار معه الكثير من مفرداتها بصوت “فيروز” يعطي رموزاً وإيحاءاتٍ أرحب مساحة من تلك التي تعطيها مرادفاتها في العربية الفصحي، حتي عندما استخدموا الفصحي، نفضوا عنها الكثير من غبار البادية الذي تكاثر فيها بمرور الأيام وجعلها أقرب إلي الحوشية!
ومما هو في حكم المؤكد أن الأخوين “رحباني” قد اكتشفوا الممر إلي الحالة الإبداعية التي تستدرج المتلقي بكل بساطة إلي ما وراء الواقع، وإلي جذوره، ومما هو في حكم المؤكد أيضًا أن ذلك الاكتشاف ما كان ليكون له ما له الآن من قيمة لولا صاحبة الحنجرة التي علقوا حالتهم الموسيقية علي أوتارها ووقفت علي المسرح “تسكُبُ الألحانْ، في فضاءٍ نفخت فيهِ التلولْ، نَسْمةَ الريحَانْ”، فسكن الليل، وتحرك التاريخ في الطريق إلي إضافة جديد إلي تاريخ الموسيقي العالمية، هي أيضًا، لو تخلف عنها الأخوان “رحباني” زمنيًا لما كانت صورتها الذهنية كما هي الآن، ومن أراد أن يفض بيديه هدية من هدايا الحياة لبعض البشر لكي يخلدون إلي الشهرة ببساطة الماء فلن يجد هدية أكثر حضورًا من مواكبة “فيروز” للأخوين “رحباني” في عصر واحد، ولربما، لولا هذه الصدفة السعيدة لسقط الثلاثة في منتصف الطريق، أو علي أقل تقدير، لما قدم أيٌّ منهم مشروعه بكل هذا الكمال!
أعرف أن الناس يقولون في الناس ويقال فيهم، فعلماء اللغة لم يؤلفوا المعاجم لكي لا تستخدم، ولا لكي يستخدمها الطيبون فقط، لكن التطاول أمر آخر فرض كتابة هذا المقال!
“حسن صبرا” و “مجلّة الشراع” كانت المفردات الأكثر تداولاً في الأيام الماضية تعقيبًا علي مقال رجم “فيروز” بأنها اكتنزت الكثير من المال ولم تفعل خيرًا في حياتها، وبأنها تنفق يومها في احتساء ويسكي Chivas Regal الإسكتلندي، وبأنها في علاقة طيبة مع “بشار الأسد”!
ومع الأخذ في الاعتبار أن “فيروز” لم تكن أبدًا عالقة في منافسة مع أحد، وأن التعريف الأكثر عدالة للخير هو الإشادة بالإنسان وبالحرية وبالعدل وبالمقاومة وإضاءة حواس الناس كشجرة عيد الميلاد، وكل هذا ما أنفقت”فيروز” عمرها في فعله، يمكن وصف هذا الهجوم بغير المبرر، ولا يمكن السكوت عنه، مع ذلك، وبرغم ما لجارة القمر لديَّ من أثر يجعل من السخافة اختزالها في غضبة أو في مقال أو في كتاب أو حتي في مكتبة، قد استقبلتُ الضجة التي واكبت المقال بالسخرية، ليقيني بأن “حسن صبرا” أول من يعلم أنه حين ينتهي من اجتراح استبصاراته وتقديم مشروعه كاملاً ويرحل عن هذا العالم سوف لا يبقي منه سوي ذكري هجومه هذا علي قطعة من المعني في ذاكرة الوطن من الماء إلي الماء، كما أنه أول من يعلم أن مكونات مقاله ستنهار وتتفتت كلها إلي لغو فارغ تركله ذاكرة التلقي إلي ركن النفايات، إلا الإعلان المجاني لـ Chivas Regal!
ما غاظني في الحقيقة هو تعاطي عشاق “فيروز” مع الحدث، لقد اعتبروا المقال طعنة وصلتها بعد أسابيع من احتفالها بعيد ميلادها الثمانين، دون أن يدور ببالهم أن “فيروز” أسقطت كل الروابط بينها وبين الزمن وأحالتها إلي “نهاد حداد”، لذلك، من الخطأ أن يقال ولدت “فيروز” عام كذا أو تزوجت عام كذا، أو، ولها العمر الطويل، ماتت يوم كذا، فهذه “نهاد حداد”، لكن “فيروز” ذابت تمامًا في مساحات الخلود، وهي، حين غنت:
“من زمان أنا وزغيرة .. كان في صبي، يجي من الحراش، العب أنا وياه؛ كان أسمه “شادي”، أنا و “شادي” غنينا سوا، لعبنا على التلج ركضنا بالهوا
كانت الأغنية، ولا تزال، تثير في خيالات المتلقين المبتدئين اعتقادًا بأن “فيروز” كانت شاهدة علي أحداث هذه القصة في طفولتها، لكن الذين عاشروها طويلاً يعرفون أنها أورثت جانبها الدنيوي “من زمان” لـ “نهاد وديع حداد” وهربت إلي رحاب المطلق، حيث تلتقي الفصول الأربعة، صارت أكبر عمرًا من “نهاد” بكثير، أعاد الزمن صياغتها كما أعاد صياغة صديق طفولتها “شادي” أيضًا، فهو لم يعد مجرد طفل لبناني سقط ضحية لحرب لا يعرف شيئاً عن أسبابها، إنما صار طفلاً عالميًا تعرض للاختفاء القسري لا أكثر ولا أقل، بعض اللبنانيين استوعبوا هوية “شادي” الجديدة وأشهروا استيعابهم لها في نكتة، بدقة أكثر، في جسر يربط بين رائعتين من روائع “فيروز” بطريقة تستدرج المتلقي دون أن يدري إلي مناطق الضحك السوداء..
قالوا أن “أيهود باراك”، وزير الدفاع الاسرائيلي، اتصل بالسيدة “فيروز” أثناء إحدي حروب بلاده مع الجنوب، وقال لها:
– قولي لنا وين “جسر اللوزية”، واحنا نرد لك “شادي”!
ثمة نقطة دالة وعالقة في هذا الاتجاه، ذلك أن “حسن صبرا” المقيم في القاهرة منذ سنوات من مواليد “حداثا” بالجنوب اللبناني علي مقربة من “جسر اللوزية” الذي بفضل صوت “فيروز” صار أثرًا عالميًا، والحديث شجون، لقد رفضت “فيروز” أن تغادر “لبنان” طوال مدة الحرب، وكانت شاهدة علي كل منحنياتها من مكان قريب، لم تكبح الحرب صوتها عن الغناء للأرض لا للأشخاص، وإرشاد اللبنانيين إلي ظلال أجدادهم، وحثهم علي لملمة جذورهم الضائعة بين البنادق!
“نهاد وديع حداد” المولودة في 21 نوفمبر سنة 1935 في منزل “وديع حداد” عامل مطبعة جريدة “لوجور” والسيدة “ليزا البستاني” لتتزوج بعد ذلك من “عاصي الرحباني” وتنتقل معه من “الدبيبة” إلي “انطلياس” وتنجب “زياد” و “ريما”، هذه امرأة لا تعني أحدًا، إنما “فيروز” العالقة بأهداب الأرواح قمرًا بنفسجيًا، وهذه امرأة أخري لا يستطيع كتاب العالم مجتمعين أن يكسروا بهاء صورتها الذهنية، ولا أن يحتجزوا قلوب الناس عن التردد علي غابتها الواسعة لتسوق المزيد من العطر الأبيض، لا مجرد كاتب لم يحرز في حياته نجاحًا سوي حدث من الماضي يرشد الناس إلي هويته الحقيقية أكثر مما يثير إعجابهم، لقد كشفت مجلة الشراع في أوائل الثمانينيات عن صفقة أسلحة أميركية لـ “إيران”، أو ما عرف في ذلك الوقت بـ “إيران جيت”، وهذا الحدث يجب ألا يمر بأذهاننا قبل أن يقلق سؤالاً:
– ما هو المصدر الذي أخذ عنه “حسن صبرا” خبر تلك الصفقة السرية إن لم يكن أول جهاز مخابرات سيدق عقلك بمجرد قراءة السؤال وهضمه؟
من البديهي أن هذا الصبرا لا يعرف “فيروز” لأنها ليست متاحة إلي هذا الحد، وليست مباحة، لا تغادر البيضة إلا نادرًا جدًا، ونادرًا جدًا هذه لا تشمل مثله بطبيعة الحال، وهذا الوعي الشاهق بقانون المسافة بين النجم وجمهوره لعب دورًا جسيمًا في تربية جلال “فيروز” ورمزيتها، وبنفس القدر، احتراف لعبة الظهور والاختفاء وتجميد الزمن منهجيًا في الوقت المناسب، وأغلب الظن هذه بعض من تعاليم “عاصي الرحباني” التي واظبت علي حراسة الإخلاص لها علي الدوام، هذا السياق يقودني حتمًا إلي ذكري ملتصقة بذاكرتي لما تتضمنه من ملمح ساخر من كتاب: “هؤلاء حاورتهم” لـ “مفيد فوزي”، لقد قال للعظيم “يوسف شاهين” ذات يوم بلزوجة عباراته الشهيرة، فيما معناه:
– “فيروز”، تلك الجوهرة الحبيسة في سجون الرحابنة لماذا لا تحررها وتعيد اكتشافها؟
وكان جواب “يوسف شاهين” في الحقيقة حادًا وشافيًا، لقد نظر إليه نظرة أحدنا إلي معتوه واستدار دون أن ينطق ومضي!
وفي نفس السياق، كادت “أم كلثوم” أن تضرب الإذاعية “آمال فهمي” لأن الأخيرة عرفت بطريقة ما أنها تناولت علي غداء يوم إحدي حفلاتها “طبق كشك ونص فرخة” وطيرت هذه المعلومة عبر الأثير، بعد انتهاء الحفلة، عندما هدأ قلب “أم كلثوم” وانتبهت إلي إفراطها في تأنيب الإذاعية الشابة طلبتها وقالت لها ما قاله “يوسف شاهين” لـ “مفيد فوزي” بأسلوبه الخاص:
– عارفة يا بنتي وأنا صغيرة، كنت فاكرة إن الملك بياكل ألماظ!!
من جانبها، “ريما عاصي الرحباني”، ابنة “نهاد وديع حداد”، ردت على هجوم “صبرا” ببيان رسمي نشرته عبر صفحتها على الفيسبوك، أجدني مضطرًا إلي إعادة نشر مقتطفات منه بلهجتها:
“إمّا محاولات تسييس فيروز فَ كلّا فاشلة، لأن إذا في نُبل وحَق وكَرَم و كرامة بهالدني، عنوانُن فيروز وعاصي، بالحياة وبالفن، هنّي البيت وهنّي الوطن الوحيد الحقيقي والراقي ما بتقربلو السياسة ولا بيعرفا. العظماء بالتاريخ يا إخوان ما بيِتبَعوا إنّما يُتبَعوا. وهنّي اللي بيسطروا التاريخ وبيِصنَعوا قوالب ومقاييس القِيَم والمواقف، وبعاد كل البعد عن حروب الزغار.
اذا فكركن أدوات وإرهاب داعش بس بالبواريد والمتفجرّات غلطانين كتير، داعش كمان بيلبسوا بدلات وعندن مراكز ومكاتب ومنابر وظيفتها تحطيم وتهشيم الحضارات وكل وج مشرق. كل عمرا الكلاب عم تنبح والقافلة عَمْ تَسيرْ.. وسارت هالقافلة بثبات ونُبل ورُقي وصَمت وترَفُّع لدرجة إنها صارت فوق فوق مطرح اللي بيوقف الزمان! لذا مهما كتروا وتنوّعوا الكلاب اللي عم يِنبَحوا ما عاد نباحن يطالْ. وليسمع من يسمع هوّي ومعلّمينو وفاتّينلو المال. أسفي على دولة مؤسسّاتا غرقانة بالزبالة والفساد ورجالها ضالين.. هاي إذا بعد فيها رجال.
ويا وزير الثقافة ووزير الإعلام ونقيب الصحافة هيدا اللي عم بيصير بأيّامكن على مرآكم ومسمعكم!”
ما هو أسوأ من بكائية “ريما” هذه أن الذين يصنعون التاريخ ويعطون الوطن بهائه، في الأوطان التي بمفردات أوطاننا، غالبًا، عندما تنتهي صلاحيتهم، يتآكلون تدريجيًا في أقبية الوحدة، مفلسين ومنبوذين، وفي الوقت نفسه، يستحوذ فيها علي كل شئ من دمَّرها، كما جرت العادة!
في النهاية، سؤال بسيط، أو رجاء ساذج:
– لماذا لا نترك أصحاب الحد الأقصي ينفقون بيننا ما تبقي من أعمارهم في سلام؟
محمد رفعت الدومي