الإتحاد الاماراتية
اتخذت جماعات عدة، في التاريخ، العنف طريقاً لتحقيق مآربها، وأراه أمراً عادياً آنذاك، فلا مجال للمنافحة إلا بهذا الأسلوب، لكن الأخطر أن الأمر تعدى إلى إرهاب الناس، مَن يرفض التعاون مع هذه الجماعة أو تلك، ومَن يوشي بها حمايةً لنفسه وعرضه. وأكثر الجماعات آنذاك كانت تتخذ مِن الدِّين غطاءً لنشاطها، وكلٌّ يعمل بأدواته التي أتاح له زمانه، فالجماعات الجهادية اليوم لا تكفيها الخناجر المسمومة التي كان يغرزها النزاريون في صدور وبطون القضاة والأمراء، حتى أرعبوا الدولة الفاطمية والعباسية وممالك أوروبا، وصارت تهدد ممالك المغول أنفسهم، وظلت الخناجر مشهورة لنحو مئتي عام، حتى جاء هولاكو (ت 664 هـ) واستباح قلاعهم، قبل الوصول إلى بغداد (656 هـ). وها نحن في التجربة نفسها مع «داعش» والأوروبيين.
مِن غير أصحاب الخناجر المسمومة، والتي كثرت الكتب الأجنبية والعربية عن أحوالها، يأتي ذِكر جماعة الخنّاقين، وهي بشكل من الأشكال لها صلة بالعنف الديني، وليس لدينا غير الروايات التي تناولتها، وكانت مستبعدة مِن قِبل السُّنة والشيعة على حد سواء، فقد صُنفت بالغالية أو المغالين أو الغلاة، ولعلَّ أبرز مَن ذَكر أخبارها أديب زمانه عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، في كتابه «الحيوان». ويأتي بعده المؤرخ والأديب عبد الله بن مسلم الدَّينوري (ت 276 هـ)، المعروف بابن قتيبة، في كتابيه «عيون الأخبار» و«المعارف». والحسن بن موسى النّوبختي (ت نحو 300 هـ) في «فرق الشيعة».
لسنا أمام تقييم هذه الجماعة، وحيثيات خروجها على السلطة وانشقاقاتها، بقدر ما يهمنا أسلوب الرعب الذي مارسته، وقد تعدى السلطة إلى المجتمع، حتى أصبح تقليداً لديها. ولا أظن أن الجاحظ وابن قتيبة قد أرّخا لها بضغينة مذهبية، لأنهما سنيان وهي محسوبة على التشيع، فالنوبختي كان شيعياً، ومؤرخو الشيعة أنفسهم يكفرون هذه الجماعة وسواها مِن الموصوفين بالغلو من العلويين.
تولت فرقة المنصورية من أتباع أبي منصور العجلي أسلوب الخنق، ويُذكر أن الإمام جعفر الصَّادق (ت 148 هـ) قد أنكر على العجلي (فرق الشيعة، حاشية بحر العلوم)، لأنه ادعى أن والده الباقر قد فوّض أمراً إليه، وكان العجلي أمياً لا يقرأ ولا يكتب، واعتبر علياً نبياً، وكان «يأمر أصحابه بخنق مَن خالفهم، وقتلهم بالاغتيال، ويقول: مَن خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإن هذا جهاد خفي» (فرق الشيعة). وقام ابنه الحسين بن أبي منصور مِن بعده بالأمر، واتبع الأسلوب نفسه، وكانت تجبى الأموال إليه، وبعد قتل الأب ثم الابن انتهت الحركة.
لكن الخناقين اسم أُطلق على جماعات عدة، لم تنفرد به المنصورية وحدها، إنما عُرفت به جماعة المغيرية أيضاً، أتباع المغيرة بن سعيد، وهو أحد الغلاة بالكوفة، والمنصورية أكثرهم بالكوفة مِن كندة والمعروف بينهم «قُطبة الخَناق» (عيون الأخبار). كان مِن تقاليد الخناقين أن يظاهر بعضهم بعضاً، لا يسافرون ولا يقيمون إلا معاً، ولا ينزلون إلا في الدُروب النافذة التي خلفها صحارى أو بساتين أو مزابل، ولديهم كلاب مربوطة ودفوف وطبول، فإذا أرادوا خنق إنسان ضرب نساؤهم الدفوف والطبول، وهيجوا الكلاب، فلا يُسمع صوت للمخنوقين بأوتارهم.
قال الشَّاعر: «إذا عزموا يوماً على خنْقِ زائرٍ/ تداعوا عليه بالنُّباح وبالعزف». ولشيوع خبر الخناقين كانوا إذا أتى شخص مجهول سألوا: «هذا خنَّاق أو عدو أو رسول سُلطان». وللنساء حضور بين الخناقين، فيشار مثلاً إلى عَديَّة الصفراء، وحميدة، والميلاء، وليلى النَّاعظية (كتاب الحَيوان). هذا، ولا يفوتنا التذكير بأن لقب الخنّاق كان يُطلق على بائع السمك ببلاد الأندلس (السمعاني، الأنساب)، وعُرف به شعراء وأدباء، فلا علاقة لهم بالخناقين المقصودين.
عندما يختلط الدِّين في المنظمة السرية يتحول إلى سلاح قاتل، من دون تبرير ما مارسته السلطات عبر التاريخ مِن إشهار الدِّين سلاحاً. كان القتل خنقاً للخصوم مبرراً بكفر مخالفي أبي منصور المذكور. ربَّما هناك مَن يعتبر هذه الجماعات مجاهدة ضد ولاة عصورها، وهذا ما قد يُنظر به إلى جماعات العنف اليوم، مثل «القاعدة» و«داعش» وسواهما، فمَن يؤرخ لحدث سياسي ينظر في نزاع الأطراف، ولا ينظر إلى الضحايا الذين ذهبوا اغتيالاً بخنجر أو خنقاً بوتر أو حرقاً بتفجير كارثي.
أرى أن هذه الجماعات واحدة في رفع راية الدِّين بالتكفير والتفجير، فلو امتلك المغيرة بن سعيد أو أبو منصور الديناميت ما استخدم غيره. قيل في تلك الجماعات، والعراق كان ساحة لها: «تركا بالعِراقِ داءً دويا/ضَلَّ فيه تلطُّف المحتال» (الحيوان)، وها هو العراق مِن الموصل ونزولاً ساحةً مثلما كان، وكأن الزَّمن توقف عن الجريان.