مناسبة القاء قصيدته المشهورة “بطاقة هوية”
(ملحق قصيدة سالم جبران “القائمة السوداء” وكيف شارك الحكم العسكري بشنق نفسه)
بعد نكبة 1948 فرضت حكومة إسرائيل الحكم العسكري على المواطنين العرب، او الأصح القول على البلدات العربية داخل حدودها، وأُلغي الحكم العسكري عام 1966 بعد معركة سياسية برلمانية وشعبية شرسة.
الحكم العسكري اعتمد على قوانين الدفاع التي فرضها الانتداب الاستعماري البريطاني عام 1945 (قوانين حالة الطورائ) بسبب تنامي الأعمال الحربية للمنظمات اليهودية ضد الانتداب. بعد إقامة إسرائيل تقرر إبقاء هذه القوانين الانتدابية البريطانية في الجليل والمثلث والنقب. عمليا مناطق تواجد المواطنين العرب. شكليا فرض الحكم العسكري على مناطق جغرافية، لكن بالتطبيق فرض فقط على المواطنين العرب. مثلا في البلدات المختلطة مثل يافا والرملة واللد أُلغي الحكم العسكري عام 1949، وفي حيفا المدينة التي صار أكثرية سكانها من اليهود لم يفرض الحكم العسكري. في عكا حيث اصبح العرب أقلية، أُلغي الحكم العسكري عام 1951.. اما في مدينة الناصرة وشفاعمرو وجميع البلدات العربية في الجليل والمثلث والنقب فقد عاني السكان من الحكم العسكري وضرورة الحصول على تصاريح للخروج من بلداتهم والعمل في البلدات اليهودية او لزيارة أقارب في البلدات الأخرى.. وطبق الحكم العسكري سياسة تجويع ضد المناضلين برفض منحهم تصاريح للخروج الى العمل خارج بلداتهم، الى جانب ظاهرة طرد عشرات المعلمين العرب الوطنيين الذين لم يلتزموا بالمواد الدراسية التي أعدها الحكم العسكري وثقفوا طلابهم على روح الكرامة.
الغاء الحكم العسكري كان ضد رغبة حكومة حزب العمل (أي حزب المعراخ والعمل كان اسمه في ذلك الوقت وكان رئيس الحكومة هو ليفي أشكول) لدرجة ان نواب عرب تابعين لحزب المعراخ صوتوا ضد إلغاء الحكم العسكري واحد النواب العرب التابعين للمعراخ خطب في الكنيست وقال “ان الحكم العسكري لمصلحة العرب”!!
جدير بالذكر ان أحزاب اليسار واليمين وعلى رأسها حزب الحيروت – الليبراليين بقيادة مناحيم بيغن (فيما بعد الليكود) صوتوا من اجل إلغاء الحكم العسكري، لأنهم رأوا به جهاز قمع استعمله الانتداب البريطاني ضد اليهود قبل إقامة الدولة.. وعارضوه ليس بسبب فرضه على العرب إنما لأنه من بقايا الانتداب الاستعماري الذي طارد أيضا العصابات اليهودية.
على إثْر ذلك اتّخذت حكومة إسرائيل قرارا بالتفرقة بين نوعين من مواطنيها العرب… “عرب ايجابيين”، أي ما نسميهم بلغتنا الشعبية “مرتزقة السلطة”، الذين باعوا كرامتهم بقروش صدئة. و”عرب سلبيين” هي صفة كل المناضلين ضد مشاريع التهويد ومصادرة الأرض وتضييق الخناق على تطور بلداتنا ومؤسساتنا التعليمية، وضمت أسمائهم لما عرف بـ”القائمة السوداء”. بالطبع فرض على العرب السلبيين (من القائمة السوداء) أوامر تحديد التنقّل التي تمنع “المغضوب عليهم” من مغادرة بلداتهم بدون تصاريح عسكرية، بل وتفرض على من تراه خطرا على الأمن، أوامر تمنعه من مغادرة منزله بعد غياب الشمس، او تنفيه لبلدة بعيدة… أي “تعذيب قانوني”!!
اذكر ان شاعرنا محمود درويش كان من الذين تلقوا أوامر تحديد التنقّل والاعتقال المنزلي بعد غياب الشمس (إثبات وجود)، وقبلها كان قد شارك في مهرجان سياسي كبير عقد في مدينة الناصرة ضد قرارات الحكومة، بتصنيفنا “عربا سلبيين” تُفرض علينا أوامر تحديد التنقل الانتدابية الاستعمارية سيئة الصيت، أي في مثل حالتي (تلقّيت امر تحديد التنقل وانا في الثامنة عشرة) كان محظورا من مغادرة مدينتي الناصرة بدون تصريح من جهاز الشرطة، سابقا كان التصريح من الحاكم العسكري، أي حافظوا على بقاياه مثل أوامر تحديد التنقّل والاعتقال الإداري والنفي وغير ذلك من الموبقات، وهو قانون سائد اليوم ضد أبناء شعبنا الفلسطينيين في المناطق المحتلة.
ألقى محمود درويش في مهرجان الناصرة قصيدته التي اشتهرت بمطلعها: “سجِّلْ: أنا عربي” (عنوانها “بطاقة هوية”) يقول فيها:
سجِّلْ
أنا عربيْ
ورقم بطاقتي خمسونَ ألفِ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعُهمْ سيأتي بعدَ صيفِ
فهل تغضب؟
سجِّلْ
أنا عربيْ
وأعملُ مع رفاقِ الكَدْحِ في محْجَرْ
وأطفالي ثمانيةٌ
أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ
والأثوابَ والدفترْ
مِنَ الصّخرِ
ولا أتوسَّلُ الصَدَقاتِ مِنْ بابِكْ
ولا أصْغَرْ
أمامَ بلاطِ أعتابِكْ
فهل تغْضَبْ؟
سَجِّلْ
أنا عربيْ
أنا إسْمٌ بلا لَقَبِ
صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها
يعيشُ بفورة الغَضَبِ
جذوري..
قبلَ ميلادِ الزّمانِ رَسَتْ
وقبلَ تَفَتُّحِ الحِقَبِ
وقبلَ السّرْوِ والزّيتونِ
قبْلَ تَرَعْرُعِ العُشْبِ
أبي مِن أسرةِ المحراثْ
لا مِن سادَةٍ نُجُبِ
وجَدّي كان فلاحاً
بلا حَسَبٍ و لا نَسَبِ
يعلّمُني شموخَ الشّمس قبلَ قراءةِ الكُتُبِ
وبيتي كوخُ ناطورٍ
مِنَ الأعوادِ والقصبِ
فهل تُرضيكَ منزِلَتي؟
أنا إسمٌ بِلا لَقَبِ
سجِّلْ
أنا عربيْ
ولونُ الشَّعْرِ فحْمِيٌّ
ولونُ العينِ بُنّيٌّ
وميزاتي:
على رأسي عِقالٌ فوقَ كوفيَّة
وكفّي صُلْبةٌ كالصّخر
تخْمُش مَن يلامِسُها
وعنواني:
أنا مِن قريةٍ عزْلاءَ مَنْسيّة
شوارعُها بلا أسماءْ
وكلُّ رجالِها في الحقلِ والمِحْجَرْ
يحبُّون الشيوعية (مواقع عربية استبدلت هذه الجملة بجملة “يعادون العبودية”)
فهل تغضب؟
سجِّلْ
أنا عربيْ
سلبْتَ كرومَ أجدادي
وأرضا كنتُ أفلَحُها
أنا وجميع أولادي
ولم تترك لنا ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخور
فهل ستأخذها
حكومتُكُمْ كما قيلا
إذنْ..
سجل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أَحَدِ
ولكنّي إذا ما جُعْتُ
آكلُ لحمَ مغْتصبي
حذارِ حذارِ من جوعي
ومن غضبي.
قد يقول البعض انها خطابية مهرجانية، وهذا صحيح، ولكننا كنا بأمس الحاجة لمثل هذا الشعر الذي ألهب الجماهير وملأها عزما وتحدّيا لتعسّف السلطة. شعرنا المهرجاني له طابعه النضالي والتثقيفي، كانت القصيدة أهم من الخطاب السياسي في مهرجانات ومظاهرات واجتماعات شعبنا. في نفس المهرجان شارك أيضا الشاعر، زميل درويش شعرا، فكرا ونضالا، سالم جبران، بقصيدة هامة هي “القائمة السوداء” يقول فيها:
سجّلْ إسْمي في القائمةِ السوداء
سجّلْ إسْمَ أبي، أمي، إخواني
سجِّلْ.. حتى حيطاني!
في بيتي لن تلقى إلا شرفاءْ!!
لا تنظر نحوي
بعيونٍ باردة بلهاء.
سجّلْ إسْمي ..
فأنا لن أتنازل
عن ارضي الطيبةِ المعطاءْ
لن أعملَ جاسوساً
للأجهزة السوداء
في كل مظاهرة تلقاني
صوتي مع آلاف الأصوات
يجلجلُ في الأجواء
وإذا ما شئتَ مزيدا
فأنا أحمرُ
مِن بلدٍ حمراءْ
سجّلْ أسمي في القائمة السوداء
وطني مُلْكي
أبقاه ليْ أجدادي
وسأبقيه للأبناء
حرٌّ فيه أنا .. أتجولُ كيف أشاء
خبِّئ في غيرِ مِلَفّاتِك، بالقائمة السوداء!
حفظنا القصيدتين غيبا، أصبحتا، خاصة قصيدة محمود نشيدا وطنيا. انتهى المهرجان بمظاهرة، اعتقالات ليلية، تحقيقات شرطة وباقة من أوامر الإقامة الجبرية.
كيف شارك الحكم العسكري بشنق نفسه؟
لا أذكر التاريخ ولكنه كما أظن بين أعوام 1955- 1959. قررت الشبيبة الشيوعية في الناصرة ان تساهم في النضال ضدَّ الحكم العسكري حسب طريقة جديدة مبتكرة.
أنتجوا لعبة كبيرة عُبِّئت بنشارة الخشب، كتبوا على الصدر والظهر “الحكم العسكري” طوقوا رقبة اللعبة بحبل للشنق، في احدى الليالي تسلّق أحد شباب الحركة خفيفي الحركة شجرة سرو شاهقة العلو كانت بجانب عين مريم العذراء على الشارع الرئيسي للناصرة، علّق لعبة القش التي سميت “الحكم العسكري” في اعلى نقطة على شجرة السرو الشاهقة وتدلّت مشنوقةً… فجراً، تجمّع النصراويون يضحكون ويصفّقون لشنق الحكم العسكري.
ثار غضب الحاكم العسكري الذي جاء مع مدير الشرطة ليشاهد السخرية من جهازه. طلب سيارة خاصة مع رافعة، لينزل اللعبة المشنوقة ويوقف المهزلة من الحكم العسكري.
صعد شرطي في سلّة الرافعة، لكنها لم تصل للحبل ليفكَّه ويحرّر لعبة الحكم العسكري من حبل المشنقة.
أُنزِلَ إلى الأرض وأُعطيَ خنجرا ليقطع اللعبة إرَبا، بنفس الوقت غيرت الرافعة مكانها مقتربة اكثر من السروة الشاهقة ورفعت الشرطي مع الخنجر بيده من جديد، مد الشرطي يده بالخنجر الى أقصى ارتفاع تمكن من وصوله، فوصل الى رقبة اللعبة، وبدأ “يذبحها” ونجح بفصل جسد اللعبة عن رأسها، فسقط الجسد والرأس على الأرض مفصولين عن بعضهما وتناثرت نشارة الخشب بالجو كأن السماء تندف ثلجا لونه أصفر .. والجماهير المتجمّعة لمشاهدة أجمل عرض في مدينة الناصرة، تضحك، تصفق وتهلّل احتفالا بالشنق الناجح للحكم العسكري.