فيروز.. العمر كله

rahbaniسوسن الأبطح

ما كان لفيروز، التي يحتفي العرب بثمانينها، أن تحظى بالمكانة التي هي عليها اليوم بصوتها وحده، مهما بلغت عظمته. فيروز امرأة محظوظة وفطنة، اجتمعت لها الكلمة الأنقى واللحن الأروع بصحبة منصور وعاصي الرحباني، في بيروت العاصمة العربية الأكثر حيوية ونبضًا وتثاقفًا في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وُجدت على جسر بين الشرق والغرب، وعرفت كيف تجوبه بمهارة. كما التحديث في الشعر والرواية كانت الأغنية تنتظر من يلبسها ثوبًا نضرًا عفيًا، يشبه مزاج اللحظة. كان ثمة من بدأ مثل زكي ناصيف وحليم الرومي. صوت فيروز برقته وشجنه وطواعيته الاستثنائية جاء بفعل السحر. المسرح الغنائي الراقص، بكل ألق ملابسه ودبيكته وديكوراته وحناجر مطربيه الشجية، حمل فيروز على أجنحته. نهضة السينما، رومانسية أفلام ذاك الزمن، عشق المتفرج العربي للشاشة التي بدأت تسطع نجومًا. كان الخصب ينتظر فيروز، على المفترق، ولاقته بإخلاص وحنكة. منحت نفسها للموسيقى، لصقل الصوت، لنحت الموهبة، لتشكيل الصورة، التي استطاعت بفضل نصائح عاصي أن تمنحها ألوانًا بلا غبش أو ضبابية.
لم تكن الظروف سهلة ولا الخيارات من دون أثمان باهظة. لا بد أن المغريات كثيرة. ليس من زعيم عربي لم يحلم بأن تغني باسمه أو على شرفه فيروز، ولم تفعل. لم تكن خيارات الأخوين رحباني مادية بقدر ما كانت تنشد مكانة ناصعة في عالم لا يزال للخُلق فيه مكانة وللموقف الجريء معنى. من حي «زقاق البلاط» الشعبي، ومن منزلها الصغير الذي بالكاد بقي له أثر، إلى أكبر مسارح العالم، ذهبت فيروز بكل تواضعها، وهشاشتها وخوفها، وارتجافها من الفشل الذي بقي شبحه يطاردها. ليس عبثًا أنها كانت تغني في كل مرة لجمهورها قبل أن تودعه بانحناءتها الصغيرة: «بكرة بارجع باوقف معكن.. إذا مش بكرة اللي بعدو أكيد». عاشت السيدة وليس لها من الدنيا غير الكلمة التي تغنيها، وعائلة صغيرة لحقها من الآلام ما يستحق وحده رواية بكامل مفاصلها. تراجيديا الحياة الشخصية لفيروز ستكون يومًا عنوانًا لمسلسل أو فيلم لن يقاوم جمهورها شجنه. الهالة التي تمنع حتى زوارها وأصدقاءها من التفوه بكلمة واحدة عنها ستنفضّ ذات يوم. الشهادات في السر كثيرة، الحكايات كثيفة، ثمة من ينحاز لفيروز حد الهوس، وهناك من يرى أن علاقتها بعاصي قبيل رحيله كان فيها الكثير من التجني عليه.
حقًا مرض عاصي، وانفصالها عنه، كان مكسرًا. انفراط العقد الرحباني لم يكن سهلاً، ومن ثم رحيل منصور، لتبدو العائلة الرحبانية في شتات موجع، وتجد فيروز نفسها تختبئ وراء متراس ابنتها الصغرى ريما، وحيدة تصارع دنيا انقلبت ملامحها بالكامل، تخطئ تارة وتصيب أخرى.
فيروز التي لم تصمت حنجرتها أدركت بألمعيتها أن الطريق الذي رسمه لها عاصي كان صالحًا معه ومن بعده، إن هي سارت على هداه. مع زياد انتفضت كصبية ترافق ابنها ويرافقها، يعزف لها ويلحن ويكتب، تنتقي ما يجعل مشوارها منسابًا، كما تراه بعيني ماضيها، وتمنياتها لغدها.
بقدر ما أسعف الحظ «سفيرتنا إلى النجوم» لتحلق في فضاءات الكوكب، باغتتها الحروب والصراعات، هاجمها الرصاص حتى وهي قابعة في بيتها في بيروت التي رفضت أن تغادرها، رغم أن الهجرة كانت متاحة، والنجاة مطلبًا لكل من استطاعه. في كل مفصل تاريخي كانت لفيروز إطلالة، عندما يستتب السلم، حين ينهض وسط بيروت، ساعة تلتبس المواقف. كانت في كل مرة تطل كبوصلة لا تتردد في تحديد المسار، بوقوفها على المسرح، أو برسائل تبثها مواربة. اللغط حول بعض آراء فيروز سيذهب كالزبد، ويبقى منها عشقها الذي لا يضاهى لفن يحلق صوب أفق فسيح يتسع حتى لصغار النفوس وصعاليك السياسة.
أن تغني فيروز على مسرح «بلاتيا» وهي في السادسة والسبعين من العمر لم يكن أمرًا بديهيًا. أن تبقى نجمة في الثمانين ليس مما أعطي لكثير من الفنانين. فيروز ليست مطربتنا، ليست «سفيرتنا إلى النجوم»، إنها قصتنا، يومياتنا في صعودنا وهبوطنا، أرشيف ضمائرنا، طفولتنا منذ كنا ننام صغارًا على هدهدة أغنية «يلاّ تنام ريما يلاّ يجيها النوم.. يلاّ تحب الصلاة». هي صباحاتنا الندية عبر الإذاعات التي أدمنت قهوتها الصباحية معها، إلى أن كبرنا على أنغام «من بعد هالعمر، كبيري المزحة هي»، وكلمات «في أمل.. إيه في أمل.. أوقات بيطلع من ملل وأوقات بيرجع من شي حنين، لحظة تِخفف زعل».
غنت فيروز كل تفصيل في أعمارنا «القهوة عالمفرق» و«رجعت الشتوية»، و«آخر أيام الصيفية» و«الخريف» والأشهر كلها، والرصيف والحي والحقل والزهر والشباك والباب، والست والجد، والطفولة، وفلسطين، والشام ومكة. ما من شيء لامس قلوبنا، أو مر بذاكرتنا أو مررنا به، إلا وغنته فيروز بعذوبتها. فيروز في الثمانين ليست فقط مطربتنا الأثيرة، ولا مجرد «جارة للقمر» أو «أسطورة» خرافية نمدحها بألفاظنا الشاعرية الحماسية أو صوت ملائكي أحببنا مخمليته. إنها «الرمز العربي» الأكبر اليوم، الذي استطاع أن يختزل بعبقرية فنية نادرة أرشيفنا العاطفي والسياسي، ذاكرة ستين سنة من النهوض الواعد والسقوط المدوي والمفجع، دون أن تتراجع أو تتهاوى. وليس قليلاً أن يكون هذا الرمز الحداثي الاستثنائي الصلب، الذي يجمع عليه العرب: «امرأة».

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.