لطالما أثار ستيف جوبز إعجابي بالطريقة الفذة التي يجذب بها اهتمام العالم بأسره لصالح منتج من أحدث منتجات شركته. وكان عرضه الشائق لمختلف إنجازات «آبل» الفائقة عبر السنين أسطورياً بكل المقاييس، إلى جانب المرئيات الضخمة الرائعة خلفه التي تعكس إنجازات الشركة أثناء انتقاله المدروس بكل عناية على المسرح أمام الجماهير. ولم يكن الرجل مجرد مبتكر من بين جموع المبتكرين الجدد بل كان خبيراً مخضرماً في فنون التواصل. وعندما كنت مضطراً إلى إلقاء المحاضرات في أيام خدمتي العسكرية السابقة، كان لزاماً عليّ أن أراجع كتاباً فذاً يحمل عنوان «أسرار التواصل لدى ستيف جوبز» لمؤلفه الرائع كارمين غالو، لاستلهام بعض الأفكار ذات الأهمية.
وعادت بي مشاهدتي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حال عرضه الممتاز لمختلف الأسلحة الجديدة والمخيفة في ترسانة بلاده العسكرية، خلال خطاب حالة الاتحاد الروسي، إلى تلك المشاعر المميزة التي انتابتني أثناء متابعة عروض منتجات ستيف جوبز التي تماثل الحبكة الدرامية لشخصية «كيو» العاشق للأجهزة الحديثة والمعدات الفائقة بجهاز الاستخبارات البريطاني في سلسلة أفلام جيمس بوند الشهيرة. غير أن جعبة الخدع الروسية الجديدة ليست مثل هواتف الآيفون أو على غرار سيارة أستون مارتن ذات المدافع الرشاشة أو حتى الأقلام الفاخرة ذات الشحنات المتفجرة القاتلة. لقد كان الرئيس الروسي يتحدث عن الأسلحة النووية الموجهة صوب الولايات المتحدة عبر مجموعة مختلفة ومتنوعة من المنصات الجديدة. فكيف يتسنى لنا وضع الأمر في نصابه الصحيح هذه المرة؟
دعونا ننحِ جانباً تلك المؤثرات المرئية الخاصة التي تبدو مستمدة مباشرة من إحدى ألعاب الفيديو العسكرية الشهيرة لحقبة التسعينات، ولنبدأ بمناقشة الأسلحة المزعومة في حد ذاتها. ففي كل حالة، ظلت أجهزة الاستخبارات الأميركية تتابع عن كثب مدى تطور نظم الأسلحة المذكورة على مدى العقد الماضي. فهناك الطوربيد المزود بالرؤوس النووية، وهناك الطوربيد المدفوع بالمحركات النووية، وجيل جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات مع نطاقات الاستهداف الأطول مدى، وصواريخ كروز المدفوعة بالمحركات النووية التي يمكنها من الناحية النظرية الطيران إلى الأبد دون توقف ومهاجمة الولايات المتحدة من أي موقع، وصواريخ كروز فائقة السرعة المنطلقة من على متن الطائرات، والصواريخ المنزلقة الفائقة لسرعة الصوت والقادرة على الطيران بسرعة تفوق عشرين ضعف سرعة الصوت. كما ذكر الرئيس الروسي نظم الليزر الجديدة التي سوف تنشرها الترسانة الروسية في مواجهة الأسلحة الأميركية. وعطف على ذكر العديد من الأسلحة الحديثة واصفاً إياها بـ«التي لا تُقهر».
وكان دافعه في الإفراط في ذكر تلك الأسلحة ثلاثي التأثير؛ أولاً، تحت تصنيف أن «كل السياسات محلية»، فالرئيس الروسي يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية العامة في 18 مارس (آذار) الحالي. وفي حين أنه يتصدر حتى الساعة كل استطلاعات الرأي وبصورة تدعو إلى المزيد من الارتياح، إلا أنه لا يزال يرغب في دغدغة مشاعر قاعدته الانتخابية الهائلة. والشعب الروسي، مثل الشعوب الأخرى في كل مكان، لا يستمتعون بشيء هو أفضل لديهم من العروض الفخمة على المسارح الكبيرة. ومما يُضاف إلى ذلك بكل تأكيد تقريع العدو الروسي الأول، الولايات المتحدة، حتى ينال جملة أصوات الناخبين من دون منازع.
ثانياً، إن الرئيس الروسي يتواصل على الدوام بدائرته المقربة من حلفائه في جميع أرجاء العالم. وكانت رسالاته التي بعث بها إلى بشار الأسد في سوريا، وإلى كيم جونغ أون في كوريا الشمالية، وإلى الملالي في طهران (هل تذكرون «محور الشر»؟) هي رسالة اطمئنان بأن لديهم من يستطيع الوقوف في وجه الولايات المتحدة من حيث قدرات الردع العالمية والتكنولوجيا العسكرية الفائقة. وتعد تلك التظاهرة من أفضل الوسائل في تعزيز مبيعات نظم الأسلحة الروسية على مستوى العالم – إذ يعتبر الإنتاج العسكري الروسي هو ثاني أكبر مورد للأسلحة في العالم، ويسعون بكل تأكيد لتجاوز المرتبة التي تحتلها الولايات المتحدة على رأس تلك القائمة. وفي واقع الأمر، تصدر روسيا وحدها من نظم الأسلحة والمعدات إجمالي ما تصدره كل من ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة مجتمعة، كما يفوق التصدير الدفاعي الروسي ثلاثة أضعاف مثيله الصيني عالمياً.
أخيراً، يبعث الرئيس الروسي برسالة واضحة ومباشرة إلى واشنطن. فهو يبغض التدخلات الأميركية والغربية مع روسيا على المستويات كافة، من العقوبات المفروضة بشأن غزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وحتى العقوبات الأولمبية التي أقرت في أعقاب فضيحة المنشطات الرياضية الضخمة. والمقصد هنا في منتهى البساطة والفظاعة: نحن قوة نووية قادرة ويمكننا تدمير أرضكم. ولا يغفل الرئيس الروسي عن حقيقة مقدرة الولايات المتحدة على معاملة الاتحاد الروسي بالمثل، ولكنه لا يترك مناسبة إلا ويستغلها لتذكير الولايات المتحدة بأن روسيا تملك ترسانة نووية على القدر نفسه من الإهلاك والتدمير.
ومن زاوية القدرات العسكرية الخطيرة، كان خطاب الأسبوع الماضي عبارة عن جعبة ممتزجة بالكثير من الأشياء. فلم يعرض علينا الرئيس الروسي ما يمكن اعتباره مفاجأة لمجتمع الاستخبارات الأميركية أو تغييراً معتبراً في التوازن النووي القائم بين البلدين أو حتى على مسار القدرات العسكرية التقليدية. والعديد من نظم الأسلحة المذكورة في خطاب الرئيس الروسي لم تظهر في أي مناسبة عامة حتى الآن، ولم تدخل أي منها في خطوط الإنتاج الدفاعي الجادة. والأمر الأكثر إثارة للقلق، ربما بمرور الوقت، هو ذلك الطوربيد النووي، غير أن فكرة قيام موسكو بتوجيه الضربة النووية الأولى أبعد ما تكون عن الواقع المعهود. ومن الصعب، كذلك، تصور ذلك السيناريو الذي تهاجم فيه الولايات المتحدة الاتحاد الروسي نووياً لأي سبب من الأسباب. وأعلى الاحتمالات المسجلة تفيد باستمرار منوال الردع نفسه والردع المضاد الذي حفظ حالة السلام النووي بين البلدين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم: أي مبدأ التدمير المتبادل المؤكد.
ومن ناحية القضايا السياسية، جاء الاستعراض الفخم للرئيس الروسي في خطابه الأخير مؤكداً عدة نقاط مهمة؛ أولها أن تعزيز موقف القوة العسكرية التقليدية الأميركية في أوروبا سيكون ذا تأثير حاسم في ردع روسيا عن استخدام هذه النظم من الأسلحة في تهديد الشعوب الأوروبية المجاورة. وبادئ ذي بدء، يعني الأمر نقل وانتشار أربعة ألوية قتالية أميركية كاملة، لتتمركز على نحو دائم في أوروبا. كما ينبغي علينا مواصلة حض حلفاء الناتو في أوروبا على تعزيز قدراتهم من حيث القوات المسلحة المتأهبة للقتال.
كما يؤكد الأمر أهمية تفادي التصعيد العسكري على كلا الجانبين، من حيث إنتاج ونشر الأسلحة النووية محدودة التأثير، وذات الطبيعة التصاعدية في سيناريوهات التوتر المكثفة، مما يدفع بروسيا إلى استخدام إحدى هذه الأسلحة الاستراتيجية – أي ما يشير إليه المحللون بمبدأ «التصعيد لنزع التصعيد». وأخيراً، سوف يستلزم الأمر من وزارة الدفاع الأميركية تطوير نظم الأسلحة المماثلة للمحافظة على قدرات الردع الأميركية، ولا سيما صواريخ كروز الفائقة لسرعة الصوت والحاملة للرؤوس النووية، في حالة أن الجهود الروسية على هذا المسار قد حازت تقدماً يفوق ما أنجزناه.
* أدميرال أميركي متقاعد بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
المصدر الشرق الاوسط