منذ فجر الفلسفة اهتم الفلاسفة بفلسفة اللغة، بالكلمات ومعناها، بتعدد المعاني وكيف يمكن التمييز في استعمال نفس الكلمة احيانا لكن بإطار مختلف، وهل طريقة لفظ الكلمة تغير القصد منها؟ والأهم الدقة في صيغة التعبير، والعلاقة بين القدرات التعبيرية والقدرات الفكرية، بل بين المفردات السائدة وبين مستوى الفكر والوعي.
سعيد يتمنى لصابر ان يعيش حتى المائة والعشرين وشهران آخران. “لماذا شهران آخران بعد المائة والعشرين؟” سأله صابر مستغربا، فأجاب سعيد “حتى لا تموت بشكل فجائي في جيل المائة والعشرين”. قال صابر “ربما لن أتجاوز جيل الثمانين فلماذا إنا بحاجة لشهران آخران بعد المائة والعشرين؟” أجابه “الشهران الآخران ضرورتهما حتى بعد وصولك جيل الثمانين أو ما دون الثمانين، أو ربما بعد شهران من اليوم.. حتى لا تموت بشكل فجائي!!
انتبهوا هنا للعبة الكلام، الموت قادم، ليس مهما متى. المهم ان يكون لك شهران حتى لا تموت بشكل فجائي..
فلسفة اللغة (البعض يسميها فلسفة اللسان) هي مجال فلسفي يبحث في الجوانب المختلفة للغة، الكلمات والمصطلحات، بما في ذلك العلاقة بين المبنى الفكري للتعبير اللساني وقدرة اللغة ان تعبر عن حقيقة معنى الكلمات والجمل التي يستعملها الإنسان في حياته، إلى جانب قدرة الترجمة على نقل دقيق للمعنى، المفارقات اللغوية، العلاقة بين معنى الكلمة (أو الجملة) وطريقة الاستعمال، وهل هناك ترابط بين التفكير واللغة؟ وأهمية التفكير في صياغة الجمل للمطالب أو الأسئلة أو تلقي ونقل المعلومات وغير ذلك الكثير من المواضيع التي تبدو أقل أهمية ولكنها ليست عديمة الأهمية في تقييم المستوى الفكري للشخص او لمجموعة!!
الحركة الفلسفية التي دعت نفسها باسم “الفلسفة التحليلية”، تناولت في بداية نشاطها المسائل التي تتعلق باللغة واشترطت بشكل لا تراجع عنه إمكانية التعبير بشكل لا يفسر على وجهين في مواقف حول قضايا معينة.
من أشهر فلاسفة اللغة الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872 – 1970) الذي يعتبر من أهم مفكري القرن العشرين، كانت له مواقف مشهورة ضد الحروب، ضد الاستعمار، ضد العنصرية وضد القهر. إلى جانب اهتمامه باللغة كان راسل عالم رياضيات وكاتب غزير الإنتاج وداعية سلام وتآخي بين البشر.
شهدت الفلسفة الإغريقية أيضا اهتماما بفلسفة اللغة، نجد ذلك في الحوارات التي كتبها أفلاطون، مثلا تحدث عن المشترك بين حصانين مختلفان، حيث يمكن ان نتعلم من التشابه في شكلهما وأصواتهما وبأننا نستعمل نفس الكلمة في تسميتهما (خيل)، لكنهما بنفس الوقت مختلفان واحد عن الآخر بصفاتهما.
أرسطو أيضا اهتم بفلسفة اللغة وطرح نظرية تصف كيف ترتبط المعاني مع الفكرة. وكانت هناك أبحاث عديدة عن العلاقة بين اللغة والمعنى وبين اللغة والواقع.
مثلا طرح أسئلة متشابهة ولكن بتغيير في الصياغة، لنأخذ نموذج بسيط، إسحاق حسب التوراة هو ابن إبراهيم، لكن يمكن للجملة ان تكون مختلفة، بدل ان نقول “اسحق”، نقول “ابن إبراهيم”. إذن هل اسحق هو ابن إبراهيم؟ أم اسحق هو اسحق؟ ما الفرق رغم ان السؤالين ليسا متشابهين؟
في حالات أخرى لا يمكن إلا ان نكون قاطعين. مثلا الحقيقة لا يمكن إلا ان تكون حقيقة، والكذب لا يمكن إلا ان يكون كذبا ولا توجد هنا إمكانية ثالثة.
لنقل ان ملك تونس اقرع. هذا غير صحيح لأنه لا يوجد ملك لتونس. الفلسفة تسمي هذه التعابير عديمة الجدوى.. أو “ينقصها الفهم”.
إذن فلسفة اللغة هي فلسفة تدرس التفكير البشري. اللغة هي ميزة للإنسان وهي تصدر عن عقل يفكر، والإنسان السليم يعي عادة ما يقول. لكننا نجد أحاديث وأقول يطلقها بعض ذوي المراكز الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، لا تمت بعلاقة للفكر السليم، تنطلق من تفكير يعيش في بوتقته منعزلا عن واقع الرقي العلمي والحضاري وقد تشد إليها جمهورا واسعا من مميزاته ان عقله نمى على التلقين والنقل وليس على التفكير والابداع.هذه حالات تفقد العقل البشري أهم صفة اكتسبها الإنسان في تطوره عبر ملايين السنين: التفكير الواعي والقدرة على التمييز بين الخرافة وبين المنطق، بين الوهم وبين الواقع وبين الأكاذيب وبين الحقائق.
من هنا يمكن اعتبار اللغة والفكر مترابطين لا يمكن فصلهما عن بعض. أنت تتحدث إذن أنت تفكر. الحيوان لا يتحدث إذن هو لا يفكر. في الدراسات الحديثة، التي برز فيها الفيلسوف الإنساني نوعم تشومسكي، اعتبر ان “دراسة اللغة ترتبط بدراسة الفكر البشري وان اللغة تفرض على الإنسان طريقة التفكير” وأضيف ان الانسان الذي يعتمد على ما ينقل له وما يلقن به، يفقد جوهره الإنساني لأنه يتحول الى ببغاء ناطقة..
لا بد هنا من ملاحظة ان فاقدي القدرة على جعل التفكير قاعدة للفرز بين ما هو معقول وما هو غير معقول ، بين ما هو حقيقة وما هو وهم، يفتقرون للقدرة على استعمال اللغة بكل ما فيها من ثراء في التعابير ، لدرجة ان مفرداتهم اللغوية تعاني من الشحة والبدائية في التعبير عن ذاتهم أولا وعن عالمهم ثانيا.
قرأت طرفة انقلها بتصرف، تفسر أهمية الوعي اللغوي في التعبير عن القصد.
*****
/حدث لكما أيضا؟/
انتقل زوجان شابان لبيت جديد، وقررا ان ترميم البيت ليلاءم احتياجاتهما. انتبها ان غرفة الطعام تحتاج إلى إلصاق “تبيت” جديد بدل التبيت القديم والممزقة بعض جوانبه. في زيارة لأحد الجيران الذي يملك بيتا نسخة طبق الأصل عن بيتهما، انتبها ان غرفة الطعام في منزله هي نسخة طبق الأصل لغرفة الطعام في بيتهما، وانه أيضا الصق “تبيت” جديد في غرفة الطعام سألاه: “كم لفة “تبيت” اشتريت عندما ألصقت تبيتا على حيطان غرفة الطعام في منزلك؟” أجابهما: ” اشتريت سبعة لفات تبيت”.
اشترى الزوجان الشابان سبعة لفات “تبيت”، وعملا على استبدال التبيت القديم بتبيت جديد، عندما انتهيا من إلصاق اللفة الرابعة تبين ان غرفة الطعام أصبحت جاهزة وانه تبقت لديهما ثلاث لفات أخرى زائدة.
اتصلا بجارهما: ” قلت لنا انك اشتريت سبعة لفات “تبيت” ولكن غرفة الطعام كان يكفيها أربعة لفات فقط”.فأجاب:” هذا ما حدث معي .. وحدث لكما أيضا؟”
*****
سؤالهما كان كم لفة “تبيت” اشتريت من اجل غرفة الطعام. ولم يسألا كم لفة استهلكت غرفة الطعام. إجابة الجار كانت صحيحة، اشترى سبعة لفات ولم يسألاه كم لفة “تبيت” استهلكت لحيطان غرفة الطعام؟
هذا ما يسمونه فلسفة اللغة.
انتبهوا لصياغة سؤالكم في المرة القادمة، وانتبهوا للمعنى الذي تريدون إيصاله بحديثكم مع الآخرين. اللغة بدون تفكير هي ثرثرة. والتفكير بدون لغة هو حديث طرشان..
nabiloudeh@gmail.com