فلسفة مبسطة: فلسفة الدين
وقصة: المقامرة الباسكالية
نبيل عودة
تدرس فلسفة الدين
(Philosophy of religion)
مواضيع ذهنية لا يربطها بالواقع الحياتي المباشر أي رابط، وصحيح القول ان فلسفة الدين هي دراسة ما وراء الطبيعية مثل قصص الخلق والموت وقضية وجود الخالق وطبيعته، لم يبقى العلم خارج اهتمام الفلسفة الدينية بل التاريخ يروي لنا قصصا كثيرة عما واجهه العلماء بظل الفكر الديني واقرب نموذج لنا هو كوبرنيكوس الذي كان راهباً وعالماً رياضيا وفيلسوفا فلكياً ويعتبر أحد أعظم علماء عصره. صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث. بسبب نظريته العلمية أعدمه الفاتيكان عام 1543 بتهمة الكفر طبعا لأن الكنيسة آمنت ان الأرض مركز الكون والشمس تدور حولها وليست الشمس مركز الكون وهناك من يقول انه لم يعدم، إنما توفي “بشكل طبيعي”. أيضا غاليلو الذي نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية ، حوكم عام 1616 بتهمة الهرطقة وكاد ان يعدم، ثم خفف الحكم الى الإقامة الجبرية ، ومنع من ممارسة أبحاثه ومنعت كتبه.
اعتكف جاليليو جاليلي في بيته تحت أمر الإقامة الجبرية، حافظ على عدم نقاش نظام كوبرنيكوس علنا واهتم بدراسة حركة أقمار المشتري واتخاذها كأداة لقياس الزمن من أجل حل مشكلة خطوط الطول.فيما بعد أعادت الكنيسة لكوبرنيكوس وجاليلو اعتبارهما وطبعت كتبهما.
هناك ديانات توحيدية يتمسك بعض رجال دينها حتى اليوم بنفس الرؤية الكنسية من القرون الوسطى.. نموذج الشيخ بن باز الذي انبرى للدفاع وتكفير من يدعي ان الأرض ليست مسطحة بل كرويه بكتابه المشهور “الصقر المنقض على من ادعى كروية الارض” غير ان العلماء كانوا وما زالوا على “درجة من الغباء” حتى اليوم بحيث لم يوافقوا بعد مع بن باز..!!
تعرف الفلسفة تيارا يطلق عليه اسم “اللاأدرية”
(Agnostic) –
انتبهوا ليس اللاقدرية- وهو تيار يقول انه لا يمكن إثبات وجود الله بناء على المعطيات الموجودة بيدنا،لكن هذا التيار لا ينكر إمكانية ان يكون الله موجودا. هو تيار قريب نوعا ما للفكر الإلحادي الذي يرى انه لا وجود إطلاقا للإله.
الماركسية فسرت الدين بأنه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي يعبر عنه كانعكاس أسطوري غيبي للقوى الطبيعية والاجتماعية المسيطرة على الإنسان.
من الواضح تماما ان الحوار بين الملحدين والمؤمنين هو حوار عبثي بين عالمين مختلفين عقليا ونفسيا وفكريا ورؤية للحياة.
وهذا ما ترويه هذه القصة القصيرة:
************
المقامرة الباسكالية – نبيل عودة
قرر محاضر الفلسفة في محاضرة له أمام طلاب السنة الأولى ،أن يجس نبض عقول طلابه ، الذين ما زال معظمهم غير مستوعبين ما الذي ورطهم بموضوع الفلسفة، بادرهم دون مقدمة :
– هل يستطيع احد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة كقوة ما ، أو حارس عظيم المسؤولية ، وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية ويؤمن به معظم الناس ؟
بعد توقف وتأمل لوجوه الطلاب الذين حل عليهم الصمت والتفكير واصل المحاضر :
– في البداية من المفيد أن أعرفكم على بعض مضامين موضوعنا اليوم، تجدون في ورقة العمل المراجع التي لا بد أن تقرؤوها، لكني انتظر منكم عدم تكرار ما تقرؤون، إنما إبداع تصوركم الذاتي، لا تخافوا من الخطأ، إذا لم تخطئوا .. هذا يعني أنكم لم تفكروا وأنكم مجرد دواب تجتر كلام الآخرين بلا تفكير. بالتأكيد أنا أصنفكم مع المخلوقات القادرة على التفكير .. إذن ما تكونون مفتاحه بأيديكم .
طلابي الأعزاء لا تنسوا أن الفلسفة لا تقبل تحديد مساحة لها .. تذكروا أن الأكثرية المطلقة من أهم الفلاسفة الذين عرفتهم الإنسانية كانوا من أعظم العلماء … لذلك عرفوا الله بأنه قوة أكثر مما هو شخصية .. البعض تجاوز ذلك إلى درجة نفيه. اليوم سنتناول مفهوم الله بتعريفه كقوة. القوة كما تعلمون يمكن تجاوزها في العلوم بقوة أكبر منها .. أما الله حسب اليهود والمسيحيين ومن نقل عنهم ، فهو سيد التاريخ، مد يد المساعدة في اللحظات القاسية والمصيرية، وزع وعودا والتزامات والى آخر هذه القصص التي نعيشها كل يوم. اقطعوا أنفسكم عنها وتعالوا نفكر كفلاسفة ، إذا توصلتم إلى قناعات فلسفية إيمانية مبررة فهذا شأنكم، والعكس مطروح أيضا، أنا لا أحكم على قناعاتكم ، أنا أحكم على تطور تفكيركم .. مفهوم ؟!
توقف يلتقط أنفاسه ويتأمل ردود الفعل البارزة على تقاسيم وجوه طلابه . كان يبتسم في سره ويعرف أن ترددهم اليوم سيتحول إلى مناطحة غدا. اليوم يستطيع أن يفرض سطوته عليهم ويقذفهم من فكرة إلى أخرى كما يقذف لاعبوا كرة القدم الكرة .. من أول الملعب إلى طرفه الأخر. متعته أكبر عندما يتمردون على أفكاره، أو يضيفون لها تبريراتهم .. عندها تبدأ دروس الفلسفة الحقيقية مع رؤوس منفتحة لكل تعبير ولكل إشارة ولكل حركة جسم قد تنفي القول المسموع وواصل مستمتعا بإرباكهم :
– هل سمعتم عن بليز باسكال ؟ ليست باسكال المغنية اللبنانية ذات الجسد الجميل .. حسنا لا انتظر إجاباتكم .. باسكال بليز ،هو فيلسوف فرنسي وعالم فيزياء ورياضيات عاش في القرن السابع عشر بين 1723 حتى 1662 اشتهر بفلسفته اللاهوتية. قال باسكال أمرا مثيرا، بأن القرار الذي يختاره الإنسان حول إيمانه بالله يشبه المقامرة، فسر موقفه ، وهو فيلسوف اللاهوت، بأنه إذا كان قرارنا المراهنة بأن الله موجود، ويتبين في النهاية أننا أخطأنا وأن الله غير موجود، عندها خسارتنا لن تكون كبيرة. لكن إذا انعكس الأمر وقامرنا على أن الله غير موجود وتبين في النهاية انه موجود، عندها ستكون خسارتنا فادحة جدا، لأننا سنخسر الجائزة الكبرى : السعادة الأبدية في ملكوت الله. لذلك نجد أن باسكال اختار أفضل خيار حسب ما توصل إليه تفكيره، أن يعيش حياته وكأن الله موجود.
هذا الموقف الباسكالي ترك أثره على فلسفة باسكال لدرجة أن الإيمان بالله صار يعرف فلسفيا في الدراسات الأكاديمية باصطلاح : “مقامرة باسكال”. لكنه ليس موضوعنا الآن..إنما قصدت أن أصور لكم الله حسب ما يتصوره فيلسوف لاهوتي: الإيمان مقامرة ، خسارتها غير هامة ولكن ربحها عظيم .
نعود للسؤال الذي طرحته في البداية : هل يستطيع احد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة، كقوة ما، أو حارس عظيم المسؤولية ،وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية ويؤمن به الناس بطرق دينية متناقضة في نصوصها رغم ان الجميع يدعي ان كتبهم أنزلت من السماء مطبوعة جاهزة.. هل يمكن ان الله القادر على كل شيء وقع بأخطاء نصية وأعاد تصحيحها مع كل كتاب جديد أنزله؟ لماذا لم ينزل الكتاب الشامل للجميع ويخلص البشر من الخلافات التي قادت إلى حروب دموية ما زلنا نعيش فصولها الرهيبة في أيامنا أيضا؟!
ما بالكم أصبتم بالخرس .. الصمت في الفلسفة مرض دماغي . تجردوا من عالمكم القديم .. بدون ذلك أنصحكم بدراسة موضوع لا يحتاج إلى بتر ما نشأتم عليه . يجب أن تعتادوا على قول ما كنتم تخافون الاعتراف به حتى بينكم وبين أنفسكم .. انتم في عالم آخر الآن .. عالم الفلسفة لا يبنى على أفكار جداتكم وأقاصيصهن. أنا لن افشي ما تصرحون به .. كل كلمة تقال هنا تبقى في الصف .. كل تفوه حتى لو بدا مضحكا هو أفضل من الخوف من التعبير … أرى هناك أصبعا ، الجنس اللطيف ينتصر في هذا الصف تفضلي :
وقفت فتاة ضعيفة الجسم وتكاد تبدو طالبة مدرسة ابتدائية.. ولكنها دائما تتطوع لفتح الحوار دون تردد، كان متنبها لها ولمعلوماتها الواسعة رغم أنها أحيانا ليست في نفس الاتجاه الذي يتوقعه، لكن مجرد اندفاعها بجرأة لقول رأيها جعل المحاضر يحددها منذ اليوم كطاقة دراسية وفكرية يجب توفير الظروف لتطورها، قالت :
– أعتقد أن الله الذي يقصده الفلاسفة ليس شخصا كما تعلمنا الديانات ولا يتدخل في مصائر البشر، إنما قوة أشبه بما يظهر في أدب الخيال العلمي .. يحتاج الإنسان إلى اكتشاف قوة مضادة ، ربما علمية، ربما عقلية، للتملص منها بحالة شكلت خطرا عليه … أو لمصادقتها اتقاء لشرها..
ضحك المحاضر معجبا بشرحها :
– فكرة رائعة .. لا أدعم صحتها .. إنما لينتبه الطلاب إلى الجديد في هذا الطرح، هذا ما يهم موضوع الفلسفة .. الفلسفة كما تعلمون هي القدرة على الإبداع الذهني .. ولا تنسوا أن الفلسفة ظهرت مع انفصال العمل الجسدي عن العمل الذهني، أي أن الفلسفة هي القدرة على جعل الوعي قادرا على فهم طبيعة الحياة والظواهر الطبيعية والاجتماعية بالاعتماد على الوعي . والآن طالبتي العزيزة ، قولي لنا قبل أن تجلسي ، أنت شخصيا أي اله تفضلين ؟
– اسمح لي .. أن أجيب بأسلوب فلسفي …
صعق المحاضر من كلماتها غير المتوقعة وجلس قائلا :
– تفضلي معك كل الوقت الذي تشائين ، كلنا ننصت لك .
– قرأت أمس حوارا من الأدب الإغريقي بين ابن زيوس ( وزيوس يا أعزائي الطلاب هو اله الشمس أحب امرأة ورزق منها بابن نصف اله نصف إنسان ) ابن زيوس قال لصديقة الإنسان: والدي يعتقد انك تؤثر علي بشكل سيء؟ رد صديقه: هذا مثير ، لأني كنت أظن أن زيوس والدك هو الذي يؤثر عليك بشكل سيء. سأله: ماذا تقصد؟ أجاب: زيوس يجعلك تعتقد أن الأصوات في راسك حقيقية. سأل ابن زيوس: كيف تعرف إنها ليست حقيقية؟ أجابه: ما دمت مقيما معنا على الأرض كانسان فأنت مثلنا وكل ما تسمعه هو وهم متخيل، حتى لو كنت تدعي انك ابن زيوس. أنت ابنه فوق فقط ، وفوق لا أحد يعلم ماذا يوجد. سأله ابن زيوس: إذن افهم انك تقول أن زيوس نفسه وهم أيضا؟ أجاب: أنا لم أقل ذلك بعد .. لا أعرف .. لم يره أحد، حتى انت لا تعرف شكله .. ربما تعيش حلما ؟! سال ابن زيوس: يعني ذلك أني وهم وأبي الذي تعبده ملايين المخلوقات هو وهم أيضا؟! أجابه: أنت حقيقي .. ولكن الأوهام التي حشوا رأسك بها تجعلك غريب الأطوار. قال غاضبا: أنت صديقي .. كيف تنكرني؟ أجابه: أنا لا أنكرك ، أنت حقيقي .. أنا أنكر أوهامك. واضافت: يبدو أن الحوار يتواصل حتى اليوم … وفي كل مكان.
قال الأستاذ مفكرا :
– الحوار يتواصل حتى اليوم .. أحسنت ولكن متى ينتهي الحوار حسب رأيك ؟
– لا أظن أن اليوم بعيد إذا قسنا حياة الإنسان على الأرض مقابل عمر أرضنا .. لكن لدي حكاية تفسر سيطرة الفكرة، وخاصة فكرة الله والإيمان على الناس ..
– ننصت لك .. أتحفينا بما لديك.
– كانت امرأة ورعة متدينة تخرج كل صباح لبلكونة بيتها، تنظر إلى السماء وتصرخ بأعلى صوتها وهي تفرد ذراعيها على أوسع ما تستطيع : “مجدوا الله”، لكن جارها كافر ابن كافر، كان يغضب من صرختها الصباحية التي تحرمه من ساعة نوم أخرى فيطل من شباك بيته ويصرخ نحوها: “لا يوجد الله”.
هكذا عاشا سنوات. لا حديث بينهما، حتى ولا سلام . هي تصرخ كل فجر: “مجدوا الله” وهو يصرخ بعدها غاضبا: “لا يوجد الله”.
حدث أن واجهت المرأة وضعا ماليا صعبا جدا، لدرجة أنها عانت من الجوع، رغم ذلك لم تتوقف عن الصياح فجرا: “مجدوا الله”: وفورا يجيئها رد جارها: “لا يوجد الله” لكن الجوع أرهقها فضعف صوتها، وقفت ذليلة في فجر أحد الأيام تنظر إلى السماء وتقول: “منذ يومين لم يدخل الطعام فمي، يا الهي ابعث لي ما ينقذني من جوعي … ليتمجد اسمك .. مجدوا الله”.
انتظرت أن يرد جارها كعادته، لكنه لم يرد. استبشرت خيرا أن الله أخرسه كما كانت تطلب في صلواتها من الرب وأيقنت أن الرب لن يتخلى عنها وسيبعث لها ما ينقذها من جوعها.
عندما فتحت باب بيتها بعد ساعة أو أكثر لتذهب إلى السوق علها تجد بعض ما يصلح للأكل في عربات القمامة، فوجئت بأكياس الطعام من خضار وفواكه ولحوم ودجاج وأسماك أمام باب بيتها، فصرخت بسعادة: “مجدوا الله”، وإذ بجارها يفتح باب بيته ويصيح بها: “أنا من اشتريت لك الطعام، لا يوجد الله”.
نظرت اليه السيدة مبتسمة وصرخت: “مجدوا الله، مجدوه كثيرا … لأنه زودني بالطعام ، وجعل الشيطان الكافر يدفع ثمنه”.
nabiloudeh@gmail.com