(وقصة تعبيرية: رجل اعمال محترم)
– هل هناك أمم غنية وأمم فقيرة؟!
فاجأهم أستاذ الفلسفة كعادته، فما أن يضع ملف المحاضرات على المنضدة، ألا وسؤاله ينقلهم بلحظات سريعة من عالم قاتم ملموس، إلى عالم يبدو بعيداً عن توقعاتهم، أحيانا يسعدهم لأنه ينشط فكرهم وحماستهم ويتنافسون في إيجاد المميزات الجديدة من الفكرة المطروحة، وأحيانا يصابون بالتصحر العقلي، ولا يدركون مرامي المحاضر من سؤاله، أو من جمله الافتتاحية للمحاضرة ..
كانت أسئلته، أو جمله الأولى، تشغلهم دوما، ولا تتركهم لساعة راحة حتى أثناء الاستراحة بين المحاضرات. إذ اكتشفوا أن ابتعاد أستاذ الفلسفة عن إعطاء جواب شاف وواضح لما يطرحه، هي خطوة تكتيكية مدروسة ومحسوبة، ليجعلهم حتى في أوقات فراغهم، يجدون ما يختلفون حوله وما ينقلهم من أجواء الدرس الصارمة، إلى أجواء من الحوار الحماسي والنشاط الذهني الذي لا يعرف الكسل، غارقين في ما درسوه حتى اليوم، لعل الإجابة بين السطور، فكل النظريات كما يؤكد المحاضر متماسكة ، ولنقدها أو تأكيدها يجب اكتشاف الخطأ فيها، أيضا في العلوم، الوصول إلى حقيقة علمية يتم عن طريق نقضها ونقدها، فإذا ثبتت أمام النقض والنقد، تصبح لها شرعية علمية.
بعد فترة من سؤاله، تأمل في وجوههم بنظراته اللامعة الذكية وابتسامة، أو خيال ابتسامة، يلوح فوق شفتيه. أضاف:
– اليوم سندخل إلى أحد المواضيع التي تحتاج إلى انتباه خاص، أحذركم أن ما درسناه كان مدخلاً. ربما شدتكم الأفكار التي لا حدود لها، اليوم أمامنا موضوع يعالج قضية محددة آمل أن تستطيعوا من دراسة هذا الموضوع فهم الأسس التي ارتكز عليها النظام الرأسمالي في تطوره. أو ما يسمى “السوق الحرة”.
استصعب الطلاب الربط بين سؤاله الذي طرحه فور دخوله، وبين الجمل الأخيرة .. “فلسفة… اقتصاد، سوق حرة”.. ما العلاقة ؟!
السؤال ظهر لعدد غير قليل من الطلاب بسيطاً جداً، لكن استمرار الشرح جعلهم يعيدون التفكير ويبحثون عن صيغ جديدة للسؤال، مثلاً: ما الذي يجعل شعباً ما غنياً وشعباً آخر فقيراً؟!
كان الجواب السهل جاهزاً ولكن لم يجرؤ أحد أن يعرض نفسه للسخرية من أستاذ الفلسفة. أحيانا يتقبل الجواب شكليا، لكن رده إذا لم يعجبه جواب ما، يحمل لسعة عقرب مؤذية لصاحب الجواب تثير الضحك في القاعة، رغم ذلك يمتدح صاحب الإجابة أيضا لأنه استعمل مادته الخام (أي عقله) ولم يصمت مثل الضاحكين الذين يظنون أنفسهم أعلى مرتبة وفهما .. فيضحك الطلاب مرغمين على أنفسهم.
كان دائماً يصر على طلابه أن يشغلوا عقولهم وليس آذانهم وألسنتهم فقط… ويقول السمع ظاهرة هامة إذا عرفنا كيف نغربل الثرثرة، واللسان عامة ظاهرة حاسمة في تشكيل مكانة الإنسان. ويقول: اللسان بدون عقل يجعلكم أشبه بالمختلين، فاحذروا بأقوالكم. أنتم اليوم طلاب الموضوع الأكثر اكتظاظا بالمنطق العقلي.
شريف قال لنفسه: العالم مقسم شرق وغرب، وشمال وجنوب .. أغنياء وفقراء شعوب غنية وشعوب فقيرة، لماذا صارت غنية وتلك ظلت فقيرة؟! هل هي مشكلة الأرض؟ الثروات الطبيعية؟ كثرة المياه أو شحتها؟! هل نشأت الحضارات في التاريخ على ضفاف الأنهر أم أيضاً في الجبال بعيداً عن الأنهر؟! نحن نملك ثروات طبيعية هائلة، حكامنا أغنياء حتى التخمة، لكننا شعوب فقيرة، ثروتنا لأصحاب الجلالة والسيادة والسعادة، بينما شعوب لا تملك ثروات طبيعية، لكن غناها اسطوري، هل هي مشكلة الجينات؟ … جيناتنا تعشق الفقر والظلم والحرمان، وجيناتهم تعشق الرفاه؟! هل السبب يتعلق بنوع النظام؟! أو ربما بنوع الدولة؟! أم يتعلق بالأشخاص الذين يديرون السياسة والاقتصاد؟! وهل للتعليم والتقدم العالمي تأثير حاسم في تصنيف الشعوب بين فقراء وأغنياء؟!
لو استعرضنا ما تراكم من أفكار في رؤوس طلاب الفلسفة بعد سؤال المحاضر الذي بدا بسيطاً، لوجدنا مئات كثيرة من الأفكار الجديدة أيضا، لكن التوجس من مقلب يحضره لهم أستاذهم ليختبر قدراتهم على صياغة التفسيرات أصمتهم، رغم النهر الجارف من الأفكار والكثير من الكلام الذي يقف على حافة اللسان .. ولكنه يضبط قبل التورط !!
فجأة قال الأستاذ بحدة:
– يجب أن تفهموا أنه لا توجد شعوب غنية وشعوب فقيرة. أعرف أن الموضوع أشغلكم. توجد شعوب تطورت وشعوب ابتعد التطور عنها. هناك أسباب عديدة وأكاد أجزم أنكم لم تبقوا سبباً بدون أن تفكروا به. ولكن ما يهمني ليس أجوبتكم وتحليلاتكم وإلا فقدنا موضوعنا الجوهري وهو “فلسفة الاقتصاد”، أجل للاقتصاد فلسفته، وأنا أقول أن شعباً لم يطور فلسفة، لا يمكن أن يتطور اقتصادياً، أو سيتأخر تطوره لدرجة تضعه خارج مسيرة الشعوب التاريخية. لا أحد ينتظر المتخلفين في عالمنا المندفع بسرعة البرق تطورا واكتشافات ومآثر علمية وتقنية نقلت الإنسان إلى مرحلة نجد صعوبة في استيعابها، فنذمهم بدل أن نندفع وراءهم، أو نجد المتشاطرين الذين ينشرون الوهم أن ما أنجزه الآخرون موجود في كتبنا، وكفانا شر المنافسة. هذه قمة السادية العلمية والفكرية، وتبرير قاتل لتخلف مجتمعاتنا وليس إنساننا، تبرير للفساد الذي يمنع رقي المجتمعات. تبرير للقصور الذي يمنع تطوير التعليم والعلوم، تبرير للنهب الذي يصب في جيوب حرامية النظام بدل أن يوظف في إحداث نهضة يستفيد منها الجميع.
تعالوا اليوم نركز على فلسفة الاقتصاد كيف صارت بعض الشعوب غنية وشعوب أخرى تعاني من التوقف وكأن التاريخ قد نسيها؟
مثلا اسمعوا هذه الحكاية عن فلسفة الاقتصاد. التقى زميلان الأول غني جداً والثاني مستور الحال.
الغني اشتغل كل حياته بتربية حمام البريد، والثاني اشتغل بالتجارة، اشترى وباع وسافر وتجول في نصف دول العالم، والغني لم يغادر سطح منزله حيث حماماته….
التقيا في مطعم وتذكرا أيام المدرسة… وسأل مستور الحال:
– قل لي يا صديقي، جمعت في حياتك أموالاً طائلة، كيف فعلت ذلك وأنت لم تتحرك من مكانك؟!
أجاب الغني:
– ربحت كل أموالي من تجارة حمام البريد.
– حمام البريد…؟ جميل جداً، يبدو أنك بعت ملايين الحمامات لتصبح مليونيراً؟
– لا، أبداً، لم أبع إلا حمامة واحدة، ولكنها كانت دائماً ترجع إلى قفصها، كما دربتها. لذلك ربحي كان كاملاً…
إذن يا طلابي آلبواسل، فلسفة الاقتصاد نحتاج إلى عقل اقتصادي…. عقل يفكر كيف لا يخسر، بل ويحول كل صفقة خاسرة إلى صفقة رابحة… ومن لا يملك مثل هذا العقل… سيظل ملتصقاً بالأرض.
مريم تشجعت وقالت:
– اسمح لي أن اروي حكاية تناسب الموضوع، الآن أفهمها من منظار فلسفة الاقتصاد.
قال لها تفضلي بإشارة من يده!
قالت: القصة عن رجل أعمال محترم!!
القصة حدثت بين السيد سامر والسيدة أزهار. سامر تميز بتفكير اقتصادي يحول الخسارة إلى ربح والفقر إلى ثروة. وأزهار التي تملك الشيء لا تفكر إلا بمردود بيعه وليس بجعله مصدراً للثروة أو للربح أكثر من ثمن الشيء ..
أي نحن هنا أستاذي أمام ما سماه أرسطو العقل الفعال لسامر والعقل المنفعل لأزهار. وهذا الفرق بين شعوب غنية وشعوب فقيرة .. كما أظن .. ولكن لنتابع القصة.
السيد سامر بحث عن حمار لينقل بواسطته الحطب للزبائن، فالحمار تكلفته أقل من تكلفة السيارة. لا يحتاج إلى تأمينات، ولا تصليح أوكزوزت، ولا تغيير رادياتور، ولا تجليس ولا دهان، إنما بعض الشعير والماء ويعمل بالنقل خمسة عشر ساعة يومياً دون أن يعترض أو يشتكي.
أخبروه أن السيدة المحترمة أزهار عرضت حمارها للبيع، فسارع سامر لشراء الحمار.
– كم تطلبين ثمنا لحمارك؟!
– 300 دولار.
وبعد نقاش على السعر، اشترى سامر الحمار من صاحبته أزهار ب 250 دولار فقط.
دفع سامر لأزهار ثمن حمارها ووعد بأن يعود في اليوم التالي لاستلام الحمار من أزهار.
حضر في اليوم التالي، ولكن كانت له مفاجأة غير سارة، قالت له أزهار:
– آسفة يا سيد سامر، الحمار مات.
– إذن أعيدي لي نقودي.
– من أين لي المال؟ صرفتهم أمس في عشاء فاخر!!
– بعد تفكير عميق وحسابات اقتصادية وتحليل فلسفي قال:
– إذن أعطيني الحمار.
– ولكنه ميت… ماذا ستفعل به؟
– سأتخلص منه بسحب يانصيب.
– كيف تطرح حماراً ميتاً لسحب اليانصيب؟
– ولما لا؟ سترين أن ذلك ممكناً، ولكن لا تقولي لأحد أن الحمار مات.
ومرت الأيام والتقى سامر وأزهار بعد شهر في أمسية كان سامر يبدو سعيداً، وقد استبدل ملابسه الرثة السابقة بملابس جديدة.
– ماذا فعلت بالحمار الميت؟ سألته أزهار.
– نظمت سحباً على الحمار… وبعت 500 بطاقة يانصيب ب 10 دولارات كل بطاقة وربحت 4990 دولارا.
– ولم يشكو أحد من كون الحمار ميتاً؟!
– فقط ذلك الذي فاز باليانصيب، ولأني رجل أعمال محترم وأرفض الغش، أعدت له أل 10 دولارات ثمن بطاقة اليانصيب التي دفعها.
nabiloudeh@gmail.com