ظل ماركس ومعظم ورثاء نظريته يصرون على معارضة العلم والتكنولوجيا بالإنسان.. بمعنى ان التطور التكنولوجي في الصناعة الرأسمالية سيضاعف البطالة والإملاق للعمال.
كان التطور العلمي والتكنولوجي، في عصر ماركس بطيئا بحيث من الصعب أحيانا ملاحظته إلا كل عقدين من السنين، من هنا أصر ماركس على أن هذا التطور “أهميته كاذبة” لأن رؤيته أن العمل ذاته أهم من الآلة. وان الآلة ستقود إلى مزيد من الإملاق والبطالة للعمال، لأنها ستحل مكان العامل. هذه الأفكار القديمة للأسف ظلت سائدة حتى اواسط النصف الثاني من القرن العشرين حيت درست الفلسفة في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو، وشكلت قلعدة لمفاهيم وسياسات حركة كان لها دورها العظيم في التاريخ الإنساني .. من هنا رؤيتي اننا نعيش مرحلة اجتماعية، اقتصادية وفكرية جديدة لا يمكن وصفها بالنظام الرأسمالي التقليدي ، بل نظام “ما بعد الرأسمالية”. ربما يجد احد الاقتصاديين تسمية مناسبة. على الماركسيين أن يعيدوا النظر بقدس أقداسهم.. بالتحرر مما لم يعد مناسبا لمرحلتنا التاريخية بكل ما تحمله من نهضة علمية، تكنولوجية واقتصادية.
الآلة لم تزد البطالة، بل ضاعفت إنتاجية العمل والثروة الوطنية للدول، أصبحت المتطلبات المهنية التكنولوجية ضرورة حيوية للصناعة، تطورت المدارس والكليات التكنولوجية ، لاعداد عمال فنيين لا تطور صناعي ولا إنتاجية قادرة على تلبية متطلبات السوق والمواصفات المطلوبة بدونهم، أي أن العمل تعمق طابعه الاجتماعي أيضا على حساب التناقض الطبقي..أوجد دافعا لدى الصناعيين للبحث عن عمال فنيين وتدريب عمال بسطاء على استعمال الآلات الحديثة. لم تعد القوة العضلية من متطلبات السوق. بيع قوة العمل تعادل مع احتياجات الصناعة للعمال الفنيين، لدرجة التنافس بين أصحاب المصانع على تجنيدهم للعمل في ورشهم مقابل شروط عمل مغرية. الأجور تحررت من القيود التي فرضها الإنتاج الرأسمالي في بداياته حين كان العامل مجرد قوة عضلية مضطرا لبيعها الى أصحاب الصناعة..
قد يكون ماركس انتبه لهذا الأمر، إذ نجد اتجاه آخر لماركس نفسه لم يولوه أهمية كبيرة حيث يقول: “إن العصور الاقتصادية تختلف عن بعضها البعض ليس بما تنتج بل كيف تنتج وبآية أدوات عمل”. كلام سليم يتناقض مع أقواله السابقة . إذن الأداة لم تغير أسلوب الإنتاج فقط، ولم تقد إلى تعميق الاستغلال الطبقي واتساع البطالة، بل غيرت الإنسان الذي يستعملها وغيرت مضمون النظام الذي أنتجها. وربما نسفت من الجذور كل مفاهيم الصراع الطبقي وهذا ما يجب ان يؤخذ في تطوير النظريات الاقتصادية والاجتماعية وصياغة الفكر السياسي المعاصر.
إن التطور العلمي والتكنولوجي احدث انقلابا بتركيبة وتفكير ووعي ومعلومات ومعارف كل الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقة العاملة. لم تعد الطبقة العاملة هي الطبقة التي صاغ ماركس نظرياته الاقتصادية والفلسفية بناء على فهمه لواقعها. بمعنى أكثر اتساعا، المجتمع البشري لم يعد نفسه المجتمع البشري الذي حلله ماركس واستنتج من واقعه الكثير من أحكامه النظرية، خاصة موضوعة الصراع الطبقي التناحري الذي لم يحدث منذ عصر ماركس وحتى يومنا، وان البروليتاريا لم تعد بروليتاريا مسحوقة، بل فئات اجتماعية أصبحت لها مكانتها الحاسمة في عملية الإنتاج، وان هناك طلب يتسع للمهنيين ذوي الخبرة والمعرفة التكنولوجية والإدارية، والعامل غير الملم بتشغيل الماكينات والتجهيزات الآلية هو عامل هامشي في الحساب الاجتماعي والاقتصادي وسوق العمل.
التأهيل ومستوى المعرفة للعامل اختلفت. الصناعة لم تعد تعتمد القوة الجسدية فقط، المهنية أصبحت مميزا هاما للعامل. المعرفة التكنولوجية أصبحت ضرورة لا قيمة للعامل بدونها. الآلة التي كان الظن أنها ستحل مكان العامل في العمل طورت العمل والإنتاج وانعكست على تطوير المبنى المهني والعلمي للعمال، فرضت مستوى مرتفع للمعارف وطابع العمل وشروطه وغيرت العلاقة بين العامل وصاحب العمل. الموضوع لم يعد مجرد بيع قوة عمل، هذا التعريف البدائي سقط. إن تطوير الآلة فرض ضرورة تطوير جيل جديد من العمال التكنوقراطيين، بحيث أصبح صاحب العمل مضطرا إلى شراء مهنيتهم بإغراءات المعاش وشروط العمل.. وتدريجيا بدأ النظام البرجوازي يخصص تأمينات اجتماعية مختلفة للحفاظ على النظام الديموقراطي وتعميق حقوق الإنسان والمواطن مع تراكم الثروة الوطنية.
كان العامل سابقا، الصناعي أو الزراعي، يعمل كل حياته دون أن يتبدل شيئا من أدوات الإنتاج أو من العلوم والتكنولوجيا التي تتعلق بنوع عمله أو إنتاجه، إذا تبدل شيء ما فهو غير ملموس ولا ينعكس على العامل نفسه إلا بشكل سطحي وفردي. أي أن أدوات عمله لم تتغير، ظروفه المعيشية ظلت خاضعة لزمن طويل جدا لنفس الشروط الاقتصادية التي لم تتأثر بأي تطور يغير من مردود إنتاجية العمل.
منذ أواسط القرن العشرين نلاحظ ان التطور العلمي التكنولوجي بدأ بقفزات هائلة، أدوات الإنتاج تتبدل وتطورت سنويا أو ما دون ذلك أحيانا.. من الآلة البسيطة الى الآلة الميكانيكية، ومنها الى الآلة الالكترونية، ودخل عالم الهايتك في الإنتاج، العمل العضلي يخلي مكانه للعمل الفكري حتى في الصناعات الثقيلة. أدوات تنفيذ المهمات المهنية تتطور باستمرار. إنتاجية العمل تضاعفت بتسارع أكبر. الثروة تضخمت بشكل أسطوري.. العامل المهني اليوم يجدد أدوات إنتاجه بسرعة تزيد عشرات المرات عن القرن التاسع عشر ، ما طور في القرن التاسع عشر كله تطور في القرن العشرين كل سنة تقريبا.. وفي القرن الحالي (الواحد والعشرين) بسرعة أكبر..
ان الثورة العلمية التكنولوجية أصبحت تشكل انقلابا اجتماعيا واقتصاديا في حياة المجتمع البشري.هذا الانقلاب لم يأخذ مكانته بشكل كامل في الأدبيات الاقتصادية – الاجتماعية لليسار عامة واليسار الماركسي (الشيوعي) خاصة وبالتحديد.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا بالغ الأهمية: هل يمكن التعامل مع النظام الرأسمالي بنفس العقلية التي سادت المجتمعات البشرية قبل الثورة العلمية التكنولوجية، وبعد إقرار قوانين وضمانات حقوقية غيرت مبنى العلاقات في المجتمع الرأسمالي؟
هل تشكل الماركسية في عالم اليوم المتطور، أداة إيديولوجية يمكن ان نبرمج على أساسها نهجا سياسيا حزبيا بنفس المسار الذي ساد القرنين السابقين القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟
الصراع الطبقي بين زينب ومشغلتها
تشتغل زينب مساعدة في منزل، تقوم بكل أشغال المنزل، لأن الزوجة غائبة معظم ساعات النهار بحجة تواجدها مع صديقاتها، والزوج غائب في عمله بإدارة شركة مقاولات، لكنه بين فينة وأخرى يتردد على المنزل لبعض الوقت.. ومع الأيام صار تردده شبه يومي أحيانا، إلا إذا كان على سفر. زينب لا تجهل حقيقة تمتعها بجسد متناسق ووجه يطيب للإنسان النظر اليه، فهو وجه جذاب بتقاسيمه وصفاء بشرته..حتى بدون الأصباغ والكريمات غالية الثمن للزوجة.. والتي تستعملها زينب أثناء غياب الزوجة وبدون إذنها، رغم ان زوج المشغلة كان على علم بذلك ولكنه لم ير غضاضة بالأمر.
في يوم من الأيام وقبل أن تخرج الزوجة للقاء صديقاتها، قالت لها زينب انها تريد إضافة على معاشها أو ستترك العمل لتعمل في مكان آخر. قالت الزوجة:
– لكننا ندفع لك معاشا جيدا؟
– لم يعد يكفي… مقابل ما أقوم به من خدمات منزلية..
– ما هي طلباتك…؟
– إضافة 20% على معاشي.
– لماذا يجب أن أضيف لك هذه الزيادة؟
– أولا أنا اعد الطعام وزوجك يقول لي أني طباخة ماهرة وطبيخي أفضل من “الخبيصة” التي تعديها له عندما أكون غائبة.
– ليسامحه الله.. لا يعجبه العجب.
– لكنه معجب بما أعده من طعام.
– واعد له حلويات شهية أيضا.. انت لم تدخيلها فمك بحجة الحفاظ على قامتك من السمنة.
– هذا ليس سببا كافيا لزيادة معاشك.
– أقوم أيضا بتنظيف البيت ومسح الغبار وكي الملابس وزوجك يقول لي أني منذ بدأت العمل في بيتكم صار البيت أكثر نظافة وترتيبا ولم يعد بحاجة لإرسال ملابسه للكوى.. بل يقول لي أني أفضل منك في كي ملابسه وتنظيف البيت وترتيبه.
– هذه تفاهات لا تعني شيئا ..هل من صاحبة بيت تعمل بالتنظيف والترتيب؟ انه عمل الشغالات أمثالك!!
– لا تنسي انه عمل مرهق في هذا البيت الكبير.. يكفي صعود الدرج ونزوله من الطبقة الأولى الى الثانية أكثر من عشر مرات يوميا.
– هذا ضمن أشغالك المتفق عليها.. ولا تنسي اننا نعطيك أيضا الطعام الفائض عن حاجتنا.. مجانا!!
– اجل .. بدل ان ترموه بالقمامة.
– وفي عيد العمال نعطيك يوم عطلة مدفوعة الأجر.. لأننا نحترم من هم دوننا في المستوى الاجتماعي.
– هذا الاحترام يجب ترجمته بزيادة المعاش… انت تصرفين في جلسة الصباح مع صديقاتك أكثر من نصف معاشي الشهري.
– انها أموالي التي ربحتها بعرق الجبين وانا حرة بها.
– لم أرك يوما تمسحين عرق جبينك، حتى في أكثر أيام الصيف حرارة..لديك مكيف هواء في السيارة، مكيف هواء في المطعم ومكيف هواء في المنزل ..
– نحن ندفع مقابل ذلك.. هذا ليس مجانا.
– لولا عملنا نحن الشغالات لما كان لديك الوقت لجلسات الصديقات اليومية… وربما تصابين بآلام الظهر من أول أسبوع.
– وقاحة.. هل تظنين ان أشغال البيت هي من واجب سيدات المجتمع؟ لو اشتغلنا نحن لمتم انتم من الجوع.
– الله أكبر.. هل جربت مرة مسح الغبار عن قطعة أثاث في بيتك؟.. انا التي اركض من غرفة الى غرفة لأنهي عملي قبل عودتك وعودة زوجك من الشركة.
– مقابل ذلك أنت تتلقين معاشا تعيلين به أبنائك.. ونعطيك فائض الطعام..وأيضا الملابس التي لم نعد نستعملها رغم أنها جديدة تقريبا.
– المعاش بالكاد يكفي لنصف شهر.. نختصر من وجباتنا حتى نكمل الشهر.. هل يجب ان نعيش على فائض طعامكم؟
– انه طعام جيد ..يشتهيه من هم بمثل مكانتك.
– هل كتب علينا نحن الفقراء ان نحيا على فائض طعامكم ..؟
– في منازل أخرى لا يعاملون الشغالات بمثل ما نعاملك.. لاحظت ان زجاجة عطري الفرنسية قد فرغت بأقل من أسبوع.. وانا شبه متأكدة انك تستعمليها بغيابي.. لكن زوجي متسامح معك..
– الم تقتنعي بعد بأني استحق إضافة معاش؟
– لا .. حججك لا قيمة لها يا زينب.. وما تقومين به تقوم به كل شغالة أخرى وربما أفضل منك!!
– لكنني لست مجرد شغالة.. أقوم بخدمات ليست ضمن الأجرة..
– مثل ماذا يا زينب؟
– زوجك يرسلني لشراء الخضار والفواكه من السوق وكل ما يحتاجه المنزل من البقالة لأني احصل على خصم هو لا يحصل عليه.
– هذا ضمن عملك المتفق عليه.
– حسنا .. يقول لي ما هو أهم وأخطر..
– ماذا يقول.. بأنك أجمل مني.. وأنت لا تملكين حتى أسوأ أنواع الكريمات والعطور لإبراز بشرتك الناعمة ووجهك الجميل.. هل نظرت الى شكلك التعيس بالمرآة؟
– قلت انه يقول ما هو أخطر.. ارفعي أجري حتى لا اكشف ما يثير غضبك؟
– شغالة لا قيمة لها لن تثير غضبي .. هناك عشرات الشغالات ينتظرن هذا العمل.
– عنادك يضطرني ان أقول لك انك لا ترين أبعد من انفك .
– انت وقحة!!
– حسنا .. زوجك يقول باني أفضل منك في السرير…
– ماذا؟ زوجي نام معك في السرير..؟
– ليس زوجك فقط، الجار أيضا قال لي أني أفضل منك في السرير!!
nabiloudeh@gmail.com