بعيداً عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، الذي هو أساسُ كل مشكلة، وسببُ كلِ علة، فهو احتلالٌ مقيتٌ، واستيطانٌ خبيثٌ، وجيشٌ مجرمٌ قاتلٌ، جرائمه كبيرةٌ ومخيفةٌ، وآثاره العدوانية باقية على الأرض، وماثلة للعيون، دماراً وخراباً طال آلاف البيوت والمساكن، والمتاجر والمساجد، والشوارع والطرقات، والمؤسسات والجمعيات، والمدارس والجامعات، فاستجلب دمارُهم الشديد استنكارَ العالم وشجبه، وعرضهم لسخطه ونقده، وهددهم بعقابٍ وحصارٍ، وعزلٍ ومقاطعة.
إنه عدوٌ شرسٌ يراقب ويتابع، ويتجسس ويتعقب، ويسجل ويصور، وينزل إلى الأرض أو يحلق في السماء، بحثاً عن أسرارٍ أو ملاحقةً لمطلوبين، أو قصفاً لأهدافٍ أو تصفيةً لنشطاء، وهو يتدخل في كل صغيرةٍ وكبيرة، ويدس أنفه هنا وهناك، ويسمح لجيشه أن يجتاح، ولجنوده أن يقتلوا، ولمستوطنيه أن يعتدوا، ولمتدينيه أن يقتحموا الحرم القدسي، وأن يدنسوا باحات المسجد الأقصى المبارك، ويطلق العنان لعملائه أن يفسدوا، وللمتعاونين معه أن يخربوا، وللمتفاهمين وإياه أن ينفذوا الخطط المتفق عليها، وأن يمرروا السياسات التي تخدم مصالحهم، وتحقق أهدافهم، وتجهض مساعي الفلسطينيين أو تحبط مخططاتهم.
لعل هذا المشهد هو الأمرُ الطبيعي والمتوقع، إذ لا يتوقع من عدوٍ محتلٍ، وغاصبٍ قاتلٍ معتدي، غير هذا أو أقل منه، ولا ينتظر منه أن يرحم المواطنين، وأن يخفف عن الفلسطينيين، وأن يربت على ظهور الضعفاء والمساكين، ويمسح على وجوه الأطفال، ويكفف دمعهم ويخفف ألمهم، فهذا هو دوره، وهذه هي وظيفته، التي لا يخجل منها ولا يتردد في تنفيذها، ولا ينكر مسؤوليته عنها ولا إصراره عليها.
الفلسطينيون لا يشكون من عدوهم، ولا يخشون بطشه، ولا يترددون في مواجهته، ولا يهربون من أمامه، بل إنهم يشعرون أنهم أقوى منه وأشد بأساً، وإن كانوا أقل منه عدداً وعدةً وعتاداً، وأنه يملك طائراتٍ وصواريخ، ومعدات فتكٍ ودمارٍ شاملٍ ومريعٍ، فهو جيشٌ ودولةٌ، وقيادة أركانٍ وحكومة، ويلق من كبريات العواصم الدولية كل دعمٍ وإسنادٍ، إلا أن الفلسطينيين قد ثبتوا في وجهه، وصدوا هجماته، وألحقوا به خسائر، وقتلوا جنوده وأسروا ضباطه، وما زالوا يتوعدونه ويتربصون به، غير مبالين بما أصباهم، ولا بحجم الدمار الذي لحق بهم، وقد أثبتوا للعالم كله صبرهم وثباتهم، محتسبين شهداءهم وبيوتهم وأملاكهم في سبيل الله، فداءً من أجل فلسطين، والحفاظ على حريتها وعزتها وكرامتها.
لكن الفلسطينيين في الوطن وفي الشتات، يشكون أن بلادهم تعيش فوضى داخلية كبيرة، واضطراباتٍ بينيةٍ شديدة، ومشاكل محلية كثيرة، وأن السبب فيما هم فيه من حيرةٍ وقلقٍ، ومعاناةٍ وألم، وضيقٍ وكربٍ، ليس العدو الصهيوني فقط، وإن كان له دورٌ في كل شئ، لكن معاناتهم باتت من فصائلهم وسلطتهم، ومن تنظيماتهم وقياداتهم، الذين لا يراعون أن شعبهم قد ملَّ منهم وتعب، وأن أهلهم يقاسون الويلات، وأن قدرتهم على الاحتمال باتت ضعيفة، وأن صبرهم قد نفذ، وأن اليأس بات يتسرب إلى نفوسهم، لا لأن العدو يبطش بهم، ويقسو عليهم، بل لأن فصائلهم لا تهتم به، ولا تعبأ بمشاعرهم، ولا تهتم بمصالحهم.
الفلسطينيون يشكون بعالي الصوت، أن الكهرباء مقطوعة في قطاع غزة، ليس لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمنع إدخال الوقود إلى محطة الكهرباء الوحيدة في غزة، أو لأنها تمتنع عن تزويدهم بالكهرباء، بل بسبب التنازع على السلطة بين رام الله وغزة، فهذا الفريق يفرض ضرائب على الوقود، وذاك لا يسلم عوائد الشركة إلى السلطات المعنية، في الوقت الذي يدفع الشعب ما عليه من مستحقات، ولا يتأخر في الأداء، بل إنه يدفع فاتورة الكهرباء مسبقاً، ضمن نظام الشريحة الإليكترونية المسبقة الدفع، فهو لا يستخدم الكهرباء إلا إذا دفع ثمنها مسبقاً.
أما المرضى المزمنون، الذين يعانون من أمراضٍ خطيرة، ويلزمهم تحويلات طبية ليتلقوا العلاج في مستشفياتٍ فلسطينيةٍ أو إسرائيلية، أو في غيرهما، فإنهم يموتون قبل أن يتم تحويلهم، وتتدهور حالتهم الصحية قبل أن يؤشر المسؤولون على تقاريرهم الطبية، وهذا السلوك المشين لا علاقة له بسلطات الاحتلال، إنما هو نتيجة البيروقراطية الفلسطينية، والاختلافات الداخلية، والمحسوبية والحزبية التي تلعب دوراً في الموافقة المبكرة أو في تأخيرها أو انعدامها كلياً.
أما مفاتيح معبر رفح فهي ليست مع مصر حصراً، وإن كانت هي التي تغلق وتفتح، وهي التي تحاصر وتمنع، إلا أن القوى في رام وغزة قادرة على أن تصل إلى اتفاقٍ إن أرادت، وأن تسهل فتح معبر رفح إن رغبت، ففي أيديها بعض الحل، وعندها الكثير من التيسير، وهم يعلمون أن الشعب يعاني من اختلافهم، ويقاسي من تناقضهم، وأنهم لو أرادوا حسناً وخيراً لشعبهم، فإنهم يستطيعون الاتفاق على ما ينفع الشعب ويخفف عنه، ولكنهم يأبون فيدفع الشعب الثمن، ويرفضون فيموت الناس ويحصرون، ويعصرون ويهانون في كبسولة القطاع التي تضيق بساكنيها.
البيوت المهدمة في قطاع غزة، والمصالح المعطلة، والمدارس المغلقة، والشوارع المحفورة، والركام الذي يملأ الأرض ويعيق حركة الناس، والسجون العديدة، والمعتقلون نكايةً، والمسجونون بالوكالة، والتعذيب سحلاً والإهانة قهراً، كلها مشاكلٌ يعاني منها الشعب وحده، بينما مفاتحها وحلولها، وسبل الخروج منها في أيدي القائمين على الأمر في عاصمتي الكيانين العتيدين، في رام الله وغزة، وليست في تل أبيب أو واشنطن، وإن كان البعض بهما يأتمر، ومنهما يستأذن وينتظر القرار.
أما الأسعار المرتفعة جنوناً، والمتزايدة دائماً، فهي نتيجة الضرائب التي تجبى في غزة والضفة، فهذا لا يرحم وذاك لا يسامح، وعلى الشعب وحده أن يدفع، وإلا فإنه يحرم، فلا سيارة جديدة دون رسومٍ مزدوجةٍ، ولا مواد تجارية أو سلع غذائية تدخل القطاع دون أن تثقلها ضرائبٌ ثلاثة، إسرائيلية وفلسطينيةٌ مزدوجة، تفرضها السلطتان في غزة ورام الله، في الوقت الذي يبحثان فيه عن كل مصدرٍ من الشعب ولو كان بسيطاً، وكل دخلٍ ولو كان خفياً، يجبيانه من الفقير والغني، والضعيف والقوي، والعاجز والقادر، فعلى الشعب وحده أن يؤدي الضريبة وهو ساكت، وعلى المستهلك أن يقبل بها ويرضى، وإلا فإنه يحرم من أشياء كثيرة.
لا تستغربوا صوتاً بين الفلسطينيين يعلو ويرتفع، يطالب بالتحرر والانعتاق، والحرية والاستقلال، لا من العدو الإسرائيلي الغاصب المحتل وحسب، بل وأيضاً من قواه الجاثمة على صدره، والمهيمنة على رزقه، والمتحكمة في مصيره، والمالكة لقراره، والمتصرفة في شؤونه، فإنهم عليه أخطر وأنكى، وأشد وأقسى.
بيروت في 16/8/2015