للتوضيح نشير بأن مجموعة إرهابية قامت بإختطاف (18) عاملا تركيا كانوا يعملون في إنشاء ملعب رياضي في مدينة الصدر الخاضعة لنفوذ الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في الساعة الثالثة فجرا. كان المختطفون يرتدون ملابسا عسكرية ويستقلون سيارات عسكرية رباعية الدفع لا تحمل أرقاما. ومن المعروف أن هناك العشرات من كاميرات المراقبة في الشوارع التي تحرك منها المختطفون الى وكرهم الأخير في شارع فلسطين وهو من الشوارع المهمة والرئيسة في العاصمة بغداد، علاوة على إنتشار العشرات من السيطرات العائدة للشرطة والجيش، وهناك سيطرات أخرى في مدينة الصدر تعود الى سرايا السلام (جيش المهدي سابقا). وفي مثل هذه الساعة عادة تكون الشوارع فاضية بإستثناء حركة سيارات الجيش والشرطة والحشد الشعبي. لذا يمكن الجزم بأن مثل هذه العملية لا يمكن أن تجري دون التنسيق مع السيطرات العائدة للجيش والشرطة وتعطيل كامرات المراقبة الألكترونية في الطرق، سيما أن المختطفين كانوا بأعداد كبيرة وبموكب حافل من السيارات الحكومية. ولشحن الذاكرة سبق أن هددت ميليشيا عصائب أهل الحق وجيش المختار الجانب التركي من مغبة التدخل في الشأن العراقي علاوة على إتهام تركيا بدعم تنظيم الدولة الإسلامية. ولا يمكن في أي حال أن توجه الحكومة هذه المرة التهمة الى داعش وازلام البعث والتكفريين لأنها ستكون مسرحية مكشوفة وسخيفة.
الجهة المختطفة التي وجه إليها الإتهام باديء الأمر هي ميليشيا حزب الله التي لها دور في عمليات الإختطاف الجارية على قدم وساق في العاصمة العراقية إضافة الى زميلتها عصائب أهل الحق. بتعبير آخر ان الحشد الشعبي هو المسؤول عن عملية الإختطاف، وهذا يفسر فوضى التصريحات الرسمية االتي صاحبت الإختطاف والتي سوف تنتهي بشكل يحفظ وجه حكومة العبادي ويرفع عنها اللوم على أقل تقدير.
تتألف هيئة الحشد الشعبي من سريا السلام التابع لمقتدى الصدر. منظمة بدر الجناح العسكري بقيادة هادي العامري. عصائب اهل الحق بقيادة قيس الخزعلي. وكتائب حزب الله العراقي بقيادة واثق البطاط. وحكة النجباء بقيادة أكرم الكعبي. كتائب سيد الشهداء بقيادة الحاج ولاء. سرايا الجهاد والبناء بقيادة حسن الساري. كتائب التيار الرسالي بقيادة عدنان الشحماني. سرايا الخراساني بقيادة علي الياسري. إضافة الى وحدات صغيرة أخرى مثل سرايا عاشوراء، وسرايا العتبات، سرايا الزهراء، والوعد الصادق، ولواء اسد الله الغالب، ولواء القارعة، لواء المنتظر، أنصار الحجة، درع الشيعة، كتائب الغضب، حركة الأبدال وغيرها. وسبق أن صرح وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي بأن ” الحشد الشعبي قوات منضبطة تعمل بأمرة القيادات الأمنية العراقية.
كما هو معروف أن رئيس هيئة الحشد الشعبي هو مستشار الأمن الوطني فالح الفياض وهو يرتبط مباشرة برئيس الوزراء حيدر العبادي، ويشغل الإرهابي الدولي أبو مهدي المهندس(جمال إبراهيم جعفر) منصب نائب رئيس هيئة قوات الحشد الشعبي. سبق أن عبر رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي بمناسبة الذكرى السنوية الاولى لتأسيس هيئة الحشد الشعبي في 13/6/2015 ” إن الحشد الشعبي تحت قيادة الدولة العراقية وهو جزء من المنظومة الأمنية العراقية”. والعبادي هو المسؤول المباشر عن الحشد الشعبي حيث يرتبط به، وهو أيضا القائد العام للقوات المسلحة، أي الخيطان الأمنيان بيده. ومعنى هذا أن القيادة العامة للقوات المسلحة من جهة والحشد الشعبي من جهة أخرى يتسلمون الأوامر من حيدر العبادي. وهذا يعني بالنتيجة إن مسؤولية القوات المسلحة والحشد الشعبي بذمة العبادي فقط، وأي إنتهاكات تقوم به الجهتان يتحملها العبادي لا غيره. وهذا الأمر فيه الكثير من الإشكالات ولكننا سنسلط الضوء على عملية إختطاف العمال الاتراك فقط.
وجهت اصابع الاتهام لحزب الله تنظيم العراق بالمسؤولية عن الحادث، وطالما ان الحشد الشعبي ممثلا بحزب الله هو الذي اختطف العمال الأتراك كإحتمال أول: فهذا يعني انه تسلم الأوامر من العبادي لأختطافهم. ولأن العبادي اصدر لعمليات بغداد أوامر بالقبض على المختطفين فهذا يعني انه أصدر أوامر ضد نفسه بإعتباره المسؤول عن هيئة الحشد أيضا. أو الإحتمال الثاني: إن الحشد تمرد على قائده العام وقام بعملية الإختطاف دون معرفة العبادي، وكلا الحالين لا يسر صديق ولا عدو. بالتأكيد ان فوضى التصريحات الرسمية جعلت الحكومة في موضع لا تحسد عليه، فقد شابها التعارض والكذب والتخبط من أعلى المستويات، في دلالة على حراجة موقف الحكومة العراقية تجاه الجارة تركيا، فهي مثل بلاع الموس بقائة أو اخراجه يجرحها، لأن الجهة المنفذة للعملية جهة رسمية بإعتراف العبادي.
اعلن قائد عمليات بغداد الفريق عبد الامير الشمري” أن جماعة مسلحة مدنية هربت الرأس المدبر لعملية اختطاف العمال الاتراك في بغداد، وما حصل في شارع فلسطين، يتعلق باختطاف عمال أتراك يعملون في الملعب الرياضي في الحبيبية، حيث تسعى الدولة والشركة المقاولة الى إزالة معارض السيارات المتجاوزة على أراضي الملعب والتي سببت وتسبب خروق أمنية، فتم اختطاف عمال الشركة يوم الأربعاء”. مضيفا ” قامت خلايا استخبارية صغيرة، بتحليل المعلومات وأجهزة الاتصالات وعندما وصلت خلية استخبارية صغيرة الى شارع فلسطين أشارت أجهزة الكشف الى وجود مخطط العملية الإجرامية في المنطقة لكن سرعان ما انطلقت جماعات مسلحة مدنية من البيوت ومسكت الخلية الإستخبارية التي استعانت بالقوات الأمنية في عمليات بغداد التي قدمت على الفور وطوقت المكان ، لكن للأسف أطلقت الجماعة المسلحة النار فقتلت احد افراد القوات الامنية وجرحت اثنين احدهما في حالة خطرة”. من هذا نستنتج ان العملية قامت بها جهة مدنية وليست عسكرية، وان العملية تتعلق بهطف العمال الأتراك، وان الجماعة المدنية أطلقت النار على الوحدة الإستخبارية! ومصدر اطلاق النار بيوت المواطنين، وليس مقر حزب الله!
ولا نفهم كيف تم تهريب الرأس المدبر والمختطفين الأتراك والمنطقة مطوقة بالكامل؟ علما أن قائد عمليات بغداد نفسه أبلغ رئيس الوزراء العراقي” بأن الرهائن الأتراك مازالوا موجودين داخل المنطقة، وإن الجيش قام بتطويق المنطقة بالكامل”. ولو كانت العملية قد قامت بها جماعة مدنية فرضا كما يدعي القائد! فلماذا أعلن زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي” نقف إلى جانب كتائب حزب الله ضد الجيش بمعركة شارع فلسطين”. وجاء في بيان للعصائب” ان هذا الاستهداف هو بمثابة مخطط للتغطية على مؤتمر الدوحة بإثارة فتنة داخلية”؟ ثم لماذا استنكرت قوة من الحشد الشعبي اقتحام احد مقراتها في شارع فلسطين، وقال الناطق الرسمي باسم هيئة الحشد الشعبي” حادثة شارع فلسطين كانت دون تنسيق مسبق مع هيئة الحشد والجهات المختصة”، داعيا الاجهزة الامنية الى” التنسيق مستقبلا مع قيادة الحشد الشعبي”؟
كلام قائد عمليات بغداد يثير السخرية لأنه في شارف فلسطين يوجد مقر ميليشيا حزب الله، ولم يفسر لنا الفهيم كيف قامت هذه المجموعة المدنية (ملابس الشرطة) بالإستيلاء على عشرات السيارات الرسمية وأن تجتاز كل السيطرات دون أن يوقفها أحد! ناهيك عن كاميرات المراقبة الألكترونية؟ يلاحظ في تصريح الشمري تأسفه عن” قيام الجماعة المسلحة مع انسحابها بتهريب الرأس المدبر لعملية الاختطاف”. بمعنى انه يعلم من هو الرأس المدبر لكن لم يعلن عنه أو عن الجهة التي ينتسب اليها! من الطريف ان هيئة الحشد الشعبي كذبت قائد العمليات، وإعتبرت مداهمة مقر حزب الله في شارع فلسطين” خطأ تنسيقيا، وعلى جميع الأطراف تجنب أية مواجهات في المستقبل”. وهذا إعتراف صريح وواضح بأن الجهة التي اختطفت العمال هي حزب الله العراقي، كما أن المختطفين والرأس المدبر كانوا في مقر حزب الله. والأعجب منه أن قيادة عمليات بغداد اشارت الى مقتل جندي واصابة ثلاثة اخرين بتلك الاشتباكات، فقد جاء في بيان لها”بعد توفر معلومات استخبارية بوجود أحد أفراد العصابة المنفذة لعملية خطف العمال الأتراك تحركت قوة للبحث والتفتيش في شارع فلسطين”. وفي محاولة يائسة للضحك على الرأي العام أعلن قائد عمليات بغداد بأن” الحشد الشعبي بريء من هذه الأعمال التي يحاول ضعاف النفوس من المندسين القيام بها للإساءة للحشد”، مع ان حزب الله من تشكيلات الحشد الشعبي الرئيسة والتي اعترف قائد العمليات بأنها وراء الإختطاف من خلال الهجوم على مقرها!
ودليل آخر على ذلك أن عدد من النواب وقادة الحشد الشعبي زاروا مقر حزب الله في شارع فلسطين الذي دهمته القوات الامنية. وصرح رئيس لجنة الامن والدفاع النيابيةُ حاكم الزاملي” الإشكال قد انتهى وقام الجيش بتفتيش مسجد بقية الله وجميع المقار التابعة لكتائب حزب الله”. وحاول حزب الله ان يكحل المسأله فأعماها من خلال بيانه الذي يتعارض مع تصريح الزاملي وجاء فيه” القوة التي دهمت احد مقرات الحزب كانت تبحث عن والي بغداد المجرم زياد خلف، الذي اعتقلته قوة من الكتائب قبل ثلاثة ايام في احد قواطع المواجهة وله ارتباط بحزب البعث المحظور”. وهذا الكلام لا ينطلي على أحد، بل هو إعتراف صريح بأن حزب الله يقف وراء جريمة الإختطاف، ثم كيف يعتقل حزب الله على سبيل الإفتراض مجرما في مقره الحزبي دون أن يسلمه إلى الجهات المختصة؟ اليس هذا تأكيد على وجود معتقلات سرية للميليشيات؟
وبنفس الغباء تصرفت وزارة الداخلية العراقية فقد زادت الطين بله بفضيحة ناقضت كل التصريحات السابقة، فقد صرح ناطقها أبو مسيلمة” أن سبب التطويق هو إيواء الكتائب لخمسة مطلوبين للقضاء تابعين لهم وليس بسبب وجود المختطفين الأتراك في المقر كما اشيع”. لاحط هنا ليس مجرما واحدا هو والي بغداد، بل خمسة مجرمين! وذكر الناطق كلمة (تطويق) بدلا عن وصفه هجوم، في معركة إستمرت يومين! مع أن مصدر رسمي سابق ذكر” أن كتائب حزب الله أسرت 15 جنديا وقتلت آخر وجرحت ثلاثة كما استولت على عدد من مركبات الجيش من نوع همفي، وإن اللواء 52 من الجيش تحرك بالفعل لدعم قوات الجيش في المواجهات مع مسلحي كتائب حزب الله التي تلقت تعزيزات خلال الاشتباكات”. هل هذا تطويق يا ناطق الكذب؟ لاحظ كلمة أسرت 15 جنديا! ومع أن الطرفين المتحاربين مرتبطان بالعبادي!
عاش العبادي في دوامة لا يعرف الخروج منها، لذا سار مع الموجة مؤكدا” ضرورة التعامل مع عصابات الجريمة المنظمة وخاطفي العمال الاتراك في بغداد معاملة المتورطين بقضايا الارهاب”. معتبرا ان الخاطفين عصابىة إجرامية وليست ميليشيا إرهابية خاضعة لإمرته!
ويبدو ان السفارة الأمريكية كانت أيضا على الخط، فقد صرح مصدر لوكالة ( آرا نيوز) بأن” السفارة الأمريكية والمخابرات التركية أبلغت رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في اللحظات الأولى من بدء عملية الهجوم، بأن المختطفين الأتراك محجوزين في شارع فلسطين من قبل كتائب حزب الله، وأصدر العبادي أمراً بحسم المعركة، واعتقال المتورطين فورا”. كما ان المرجعية تدخلت للحفاظ على البيت الشيعي، فقد جاء في الأخبار” تدخل عبد المهدي الكربلائي بالموقف لوقف إطلاق النار بعد جرح ثلاثة من حزب الله، وقتل اثنين من الجيش، وإصابة ثمانية آخرون جروح بعضهم خطيرة”. ودلالة على التخبط هاجم نائب رئيس مجلس محافظة بغداد عطوان قيادة عمليات بغداد بقوله”ان تقييم الوضع الأمني للعاصمة أظهر أن إعطاء الدور الكبير لقيادة عمليات بغداد في إدارة الملف الأمني لم يكن جيداً خاصة بالتعامل مع عمليات الخطف والتفجيرات المتكررة وعدم تعاونها مع الحكومة المحلية في إدارة هذا الملف”. يلاحظ أن كل الجهات ذات العلاقة بالإختطاف مسؤولية وتصريحا من شيعة السلطة!
إنتهاء السيناريو
أختتمت المسرحية بفضيحة بعد إعلان مجموعة مسلحة تسمي نفسها (فرق الموت) في 11 أيلول الحالي عن شروطها لتسليم المختطفين الأتراك ومنها، إيقاف تدفق المسلحين من تركيا إلى العراق، وفك الحصار الذي يفرضه مقاتلون معارضون، بينهم إسلاميون، على قرى شيعية في شمال سوريا، وايقاف سرقة النفط عبر اقليم كردستان.
في الحقيقة هذه أول مرة تعلن مجموعة إرهابية عن نفسها بإسم (فرق الموت) وهذا يعني ان الإسم وإن جاء بصيغة الجمع (فرق) فأنه إسم وهمي لا وجود له. علما ان هناك العشرات من فرق الموت المرتبطة بميليشيات الحشد الشعبي. وهذه التسمية عامة وهي مقصودة الغرض منها التلاعب، وعدم إلزام جهة محددة بالعملية، مع ان العملية مكشوفة ومعروفة الجهة التي تقف ورائها.
كما أن شروط الميليشيا (فرق الموت) غريبة فهي تتعلق بكردستان العراق، وتركيا وسوريا. وهي ذات طابع سياسي وإقتصادي وطائفي. وغير مرهونة بوقت ما للتنفيذ أو تهديد للمختطفين. وفرق الموت كما هو معروف تساوم على الفدية بالمال وليس على مطالب يصعب التحقق من تنفيذها.
من الواضح للعيان ان خلط الأوراق بهذه الصورة المبتذلة هي محاولة من حكومة العبادي لذر الرماد في العيون، وان المختطفين هم بعهدة الحكومة حاليا وسوف يفرج عنهم قريبا بسلام من خلال سيناريو لاحق، ويبدو ان الحكومة التركية على معرفة تامة بالتفاصيل وتحاول المساعدة في رفع الحرج عن العبادي، وهي مطمئنة من سلامة عمالها ولا خوف عليهم.
علي الكاش