مثلما هدد رئيس النظام السوري بشار الأسد دول الغرب بأن الإرهاب سينتقل إليها منذ سنوات، ها هو يهدد لبنان بأنه «لا يمكن أن يكون بمنأى من الحرائق التي تشتعل حوله ويتبنى سياسة اللاسياسة، أو النأي بالنفس»، كما قال في حديثه الصحافي أمس.
وهو توجه بكلامه هذا إلى الرئيس ميشال عون، مسمّياً إياه في فقرة سابقة، ومشيراً إلى «هذا الرئيس» في الفقرة التالية قبل العبارة التي تحمل التحذير من استمرار اعتماد سياسة النأي بالنفس التي عبر عنها الرئيس عون في خطاب القسم بإشارته إلى «ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية».
فمن «أفتى» بإرسال مفتي سورية أحمد بدر الدين حسون إلى الرئيس اللبناني ثم الى مقابلة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، للتعبير عن الانتشاء بـ «انتصار» حلب، لم يفعل ذلك بالصدفة. المفارقة هي في استبداله بضابط المخابرات الذي اعتاد أن يوصل الرسائل إلى حكام لبنان وساسته قبل سنوات. والرسالة التي أرادها الأسد تؤشر إلى أن هدفه التالي بعد ارتكابه مأساة حلب هو لبنان، على الصعيد السياسي، بموازاة هدفه على الصعيد العسكري، المتمثل بتحضير العدة للقضاء على إدلب، كما هو المخطط المنتظر بالتعاون مع حلفائه الإيرانيين والروس والصينيين الذين دخلوا على خط الاشتراك في الحملات العسكرية في الأشهر الأخيرة، من طريق تزويد النظام الأسلحة. أما الرقة معقل «داعش»، فيقضي المخطط بتركها للتوقيت المناسب، عندما تستنفد إمكانات استخدامها الإرهابي ضد سائر الدول والقوى المعادية للنظام.
سياسة النأي بالنفس محرّمة على لبنان، وفق ما سبق لـ «حزب الله» أن أفتى أيضاً منذ زمن بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، الذي تهكّم عليها قبل أشهر في أحد خطاباته، فيما هي حلال للأسد والحزب نفسه إزاء الغارات الإسرائيلية المتتالية على مواقع للجانبين، وآخرها على محيط دمشق، ثم على الزبداني.
والحجة أن الطائرات الإسرائيلية قصفت منطقة المزة من الأجواء اللبنانية واستعملت المدفعية البعيدة المدى من فلسطين المحتلة حين طاولت ضواحي الزبداني. وإذا كان المواطنون في العاصمة السورية أخذوا يسألون «أين هي صواريخ إس-300 و400» لتتصدى لطيران العدو، فإن امتناع «حزب الله» في لبنان عن التعليق حتى على استعمال إسرائيل الأجواء اللبنانية، دليل إما إلى أنها حجة أطلقها النظام لتبرير إغماض عينيه، أو أن «المقاومة» تمتنع عن التصدي لإسرائيل، لأن الأولوية الآن هي لاستكمال مجزرة حلب، التي سيسجل التاريخ أن إيران كانت مساهماً أساسياً فيها، مستخدمة أداة لبنانية.
«فتوى» إيفاد المفتي حسون إلى لبنان ليواكب تهديدات الأسد، رسالة إلى العهد وغيره من اللبنانيين، بأن السنّي الذي يفترض أن يعقد عون الاتفاقات معه هو شبيه المفتي لا زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، وأن نموذج حسون السنّي هو الذي على لبنان أن يقتدي به، ملحقاً بالسياسة الجهنمية التي جعلت رجل الدين يبرر عمليات السحق والقتل والتجويع والتهجير والإلغاء، في حلب وغيرها. وربما هي رسالة إلى الحريري نفسه بأن عليه أن يتشبه بالمفتي، الذي أجاز تدمير حلب وسحق المعارضة. وفي زيارة البطريرك لن ينخدع أحد بأن الرسالة هي أن الأسد يحمي المسيحيين.
ولمن لا يزال يتساءل عن أسباب تأخر تشكيل حكومة العهد الأولى ويغرق في سجال الأحجام والأوزان فيها، بالتوازي مع الخلاف على قانون الانتخاب الذي يحدد هذه الأحجام، أن يكتشف أن المشكلة في مكان آخر، أي في هوية العهد الجديد، إقليمياً.
يعود رأس النظام بعد حلب إلى سياسته القديمة، وتعود معه عملية التراكم الموضوعي للنقمة على محاولات إخضاع اللبنانيين بالقوة والترهيب والإذلال. والأرجح أن تراكم النقمة هذه المرة لن يطول، مثلما حصل بين بداية تسعينات القرن الماضي وصولا إلى عام 2005.
وإذا كانت تنتظر لبنان مرحلة حرجة بعد حلب نتيجة جموح حكام دمشق، فإن اللبنانيين الذين وُجهت إليهم رسالة زيارة حسون، أمام تحدّ من نوع جديد، هو مدى قدرتهم على صوغ وسائل مواجهة الأخطار بقواهم الذاتية، وبتفادي الانقسام الداخلي الذي تغذيه تحالفاتهم الخارجية. لم يعد بإمكانهم الركون إلى أي قوة خارجية في عصر الفيتوات الروسية الصينية على قرار دولي هدفه وقف النار في حلب، وفي زمن عجز الغرب وعدم اكتراث أميركا بمأساة المدينة التاريخية.
أما المضحك في هذا الخضم، فقول الخارجية السورية إن دول الخليج لا تملك قرارها و «تفتقر إلى الاستراتيجية المستقلة»، في وقت لا يجرؤ مسؤول سوري على عقد صفقة قمح مع دولة أخرى غير موسكو، ويمنح الأخيرة حصرية عقود الإعمار.