يصف نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع، العشاء الذي أقامه الرئيس كلينتون في مساء اليوم السادس والأخير من محادثات شيبردزتاون، ضمن مذكراته التي تضمنت فصلا عن “قمة جنيف” وكواليس القمة الفاشلة، وسبب تأخرها، ووفاة الرئيس حافظ الأسد في يونيو/حزيران 2000.
يقول الشرع: وصلت أنا والوفد السوري المؤلف من معاوني الوزير، اللواء يوسف شكور ومجيد أبوصالح، إلى المكان المحاط بأنوار خافتة، ربما لترشيد الطاقة، وكانت دهشتي كبيرة أن أرى الرئيس كلينتون يرحب بي بحرارة عند باب السيارة، وليس عندما أصل إلى باب الصالة. كانت هذه إيماءة في غاية اللطف من قبل الرئيس.
وجدت على الطاولة كلًا من باراك والجنرالين ساغي وشاحاك. بدأ كلينتون الحديث، ليس لأنه صاحب الدعوة فحسب، وإنما لكي يقطع الصمت المخيم على المكان بأي كلام يمكن أن يقال في هذه المناسبة الغريبة.
وجهت كلامي إلى الرئيس كلينتون بعد توقفه دقيقة أو دقيقتين. قلت: ما كنا لنأتيَ إلى شيبردزتاون لولا تأكيدكم يا سيادة الرئيس بأن “الوديعة” في جيبكم، وتأكيدات السيدة أولبرايت على الموضوع ذاته خلال زيارتها لدمشق ولقائها مع الرئيس الأسد مطلع الشهر الماضي.
تابعتُ بأننا جئنا إلى شيبردزتاون واكتشفنا أن باراك كالجالس في مقعد قيادة سيارة لا يدور مفتاحها ويطلب من أولبرايت أن ندفعها إلى الأمام. ثم نتأكد بأنه لا يكتفي بعدم تشغيل محركها بعد دفعها، بل يضع قدمه على كوابحها. لقد اتفقنا على تلازم اللجان الأربع، واجتمعت كلها، باستثناء لجنة ترسيم الحدود.
وعندما اجتمعت هذه اللجنة في اليوم الثالث، لم يحضر الجانب الإسرائيلي، فانعقدت اللجنة بحضور الجانبين السوري والأميركي فقط. ثم عندما وجدنا أن إيقاف اجتماعات اللجان والمغادرة أمران لا مفر منهما في هذا الجو الثقيل الخانق، أرسلوا إلى اجتماع الحدود نفس الشخص الذي كان في وفد يوسف بين أهارون الذي أرسله شامير نهاية 1991 يحاضر دائمًا أمام موفق العلاف عندما كان يطرح الانسحاب من الجولان بأن جزءًا من الجولان أرض يهودية احتلته سورية بقوة السلاح.
قبل أن آتي إلى هنا سألوني في القيادة السورية بعد اجتماعات بلير هاوس منتصف الشهر الماضي: ما هو انطباعي عن رئيس حكومة إسرائيل باراك، قلت لهم إنه رجل مخادع وآمل أن أكون مخطئًا.
قاطعني باراك، وتوجه إلى الرئيس كلينتون يسأله عن معنى كلمة مخادع “cunning” بالإنجليزية التي يتقنها. كان كلينتون لبقًا أكثر مني وقال له إن السيد الشرع يتهمك بأنك لم تكن دقيقًا في كلامك. ومع أن باراك يتقن الإنجليزية، فإنه ادعى أنه لم يفهم اتهامي له بأنه كان ماكرًا ومخادعًا في مقاربته لمسألة السلام، وتعامل معها كأنها مناورة حربية.
بعد الاستيضاح قال باراك إن هذه اللقاءات مقدمة مهمة للأيام القادمة. إنها كالبذرة التي يجب أن تنمو بعد الزرع. نحن نريد مثلكم الحفاظ على كرامتنا وكرامة سورية؛ لأننا سنكون في المستقبل جيرانًا قادرين على التعايش. يجب أن تعرفوا بالضرورة حاجاتنا، وهي برأيي لا تتناقض مع حاجاتكم، ولذلك فإنني لم أسحب الوديعة. لكن لا بد أن نجد حلًا عندما أجتمع مع الرئيس الأسد. أعرف أننا سنصل إلى اتفاق يلبي حاجات الطرفين. فهمت منكم أنكم لا تثقون بي، ونحن بحاجة لبناء جسور بيننا، والرئيس كلينتون يحترم الرئيس الأسد ويحترمكم. كل ما نحتاجه هو قليل من الصبر والانتظار شهرين، لأنني مضطر لاستشارات أمنية تهم مستقبل إسرائيل.
وتابع باراك قائلًا إنه عمل عن قرب مع رابين، وإنهما كانا يبحثان عن طريق للحديث مع سورية، لأن من استراتيجيتنا ضمان الأمن مع سورية ولبنان. إن المسألة أمامنا ليست بسيطة، ويجب أن أستشير أهم خبرائنا الأمنيين في إسرائيل، وبالتالي لا بد من العودة السريعة مزودًا بردود لا بد منها. قلت له أرى أهم خبرائكم في الأمن موجودين هنا على الطاولة. نظر ساغي إلى باراك نظرة مليئة بالعتب والشماتة، لكن باراك تابع قائلًا: لقد خسر رابين الفرصة، وأضاف أننا سنكون جادين وجاهزين للعودة، وأن الخروج من لبنان مهم لنا جدًا، وسيساعدنا في الجولة القادمة مع سورية.
لم يرغب الرئيس كلينتون في أن يتحول الحديث إلى سجال بيني وبين باراك، لأنه فهم أن باراك يقصد بإثارة موضوع لبنان استفزازنا كوسيلة ضغط على سورية. طلب مني كلينتون أن ألتقيه بضع دقائق في غرفة مجاورة، طلب خلالها ألا أبلغ الرئيس الأسد ما أشعر به من إحباط، وأن نستأنف المفاوضات بعد أسبوعين، واقترح موعدًا التاسع عشر من الشهر نفسه أو بعده بقليل كما نرى ذلك مناسبًا.
شعرت وأنا مع كلينتون على انفراد لبضع دقائق بأنه لم يأخذ جوابًا شافيًا من باراك حول رسم حدود الرابع من يونيو/حزيران، وأنه سيضغط من أجل أن نضيف ذلك في المرة القادمة. وعندما لاحظ أنه لا مجال لعودتي قال دعني أتكلم غدًا مع الرئيس الأسد هاتفيًا. قلت للرئيس كلينتون لا أستطيع إلا أن أبلغ الرئيس الأسد بما جرى، وهو الذي سيبت فيما إذا كان على استعداد لمتابعة هذه المحادثات، وهو الذي سيقرّر في هذا الشأن، وآمل ألا تكلمه قبل أن أصل إلى دمشق وأضعه في صورة ما حدث.