جورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا
في اليوم الثاني من بداية عام 1962، توفي الزعيم الوطني السوري فارس الخوري عن تسع وثمانين سنة، منهيًا حياة سياسية ألهبت الذاكرة التاريخية للشباب السوري على مدى نصف قرن، وستظل تلهبه. هو الشاعر والأديب والحقوقي والسياسي والاقتصادي واللغوي، الذي ساهم مع زعماء الكتلة الوطنية في استقلال سوريا وصناعة تاريخها الحديث.
الزخم الذي عاشته سوريا في ربيع استقلالها، جعلها تحتضن تحت قبة برلمان خمسينياتها موزايكًا فكريًا قل نظيره
شارك في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق وامتهن المحاماة، وكان نقيبًا للمحامين، كما شارك في تأسيس معهد الحقوق العربي، وتولى وزارة المالية في الوزارات الثلاث التي تألفت خلال العهد الفيصلي، وكان وزيرًا للمعارف والداخلية.
انتخب فارس الخوري رئيسًا للمجلس النيابي السوري عام 1936، ومرة أخرى عام 1943، كان وصوله إلى رئاسة مجلس الوزراء 1945 سابقة في تاريخ سوريا، يقال إن سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى، رد على سؤال سائل، لماذا اختير الخوري رئيسًا للوزراء وهو مسيحي، فقال له: وهل سيحكم بالإنجيل أو القانون، أجاب السائل: بالقانون! فرد سلطان باشا: وما المشكلة في ذلك؟ الدين لله والوطن للجميع.
النضج السياسي الذي بلغته سوريا، والزخم الذي عاشته في ربيع استقلالها جعلها تحتضن تحت قبة برلمان خمسينياتها موزايكًا فكريًا قل نظيره، كان الشيخ مصطفى السباعي، مؤسس حركة الإخوان المسلمين في سوريا وزعيهما، وخالد بكداش، زعيم الشيوعيين، وأكرم الحوراني، زعيم البعثيين.. وغيرهم من المشارب السياسية والفكرية، تحت قبة البرلمان يتنافسون ويتناقشون ويتحاورون خدمة لسوريا، وليس خدمة لطائفة ولا دين أو حزب.
كل ذلك انتهى بتدخل العسكر في شؤون الحكم، ولعل الضربة القاضية كانت بالوحدة مع مصر، حيث دمّر جمال عبد الناصر التنوع الحزبي والسياسي في سوريا، وبنى على أنقاضها دولته الأمنية والمخابراتية، وأعمل أدوات القمع في مواجهة الكلمة والفكر، هذه الدولة الأمنية التي ابتلعت وطنًا خِصبًا اسمه سوريا، لا زلنا نرزح تحت وطأتها حتى اليوم بعهد الأسدين ونحصد نتائجها المرة.
قليلون ربما يعرفون أن فارس الخوري تولى، خلال ترؤسه للحكومة السورية، وزارة الأوقاف، وعندما اعترض البعض خرج نائب الكتلة الإسلامية في المجلس آنذاك عبد الحميد طباع ليتصدى للمعترضين قائلًا: إننا نؤّمن فارس بك الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا.
هذه الحالة ليست فريدة في تاريخ سوريا، ففي النصف الثاني من الخمسينيات، خاض أحد أعيان سهل حوارن ويدعى هاني سالم (مسيحي) انتخابات لرئاسة الميتم الإسلامي في مدينة درعا، وكان في مواجهته أحد زعماء حركة الإخوان المسلمين وهو الشيخ أحمد الجنادي، يروي الصديق ثابت سالم وهو إعلامي معروف ونجل هاني سالم أن أهالي درعا اختاروا والده ليكون رئيسًا للميتم الإسلامي.
قليلون ربما يعرفون أن فارس الخوري تولى، خلال ترؤسه للحكومة السورية، وزارة الأوقاف
في ذكرى وفاة الزعيم فارس الخوري نتذكر كلماته ومواقفه التي ألهبت الشارع السوري. تمكن هذا الزعيم مع نظرائه في العمل السياسي من تعزيز الوحدة الوطنية وتقوية مناعتها من الداخل، فكانت تلك المناعة الحقيقية التي أكسبت سوريا استقلالها ضد التدخل الخارجي. هو القائل: “ليس من شك في أن دفع خطر الاستعمار يتوقف على وعينا لكل ما يُدس بيننا ويعمل على تفرقتنا… وإذا كانت فرنسا تتحجّج بأنها في بلادنا لحماية الأقليات، فأنا من هذا المنبر أعلن أننا في غنى عن هذه الحماية.. أما إذا أصرت فرنسا… فأنا من هذا المنبر أشهد ألا إله إلا الله…”.
عندما نقرأ في تاريخ سوريا الحديث؛ نستطيع أن نتلمس الصراع السياسي بين ساستها ومكائدهم السياسية؛ الأتاسي وفخري البارودي وفارس الخوري وشكري القوتلي وخالد العظم والجابري.. إلخ، لكننا عندما نتذكر ساسة تلك المرحلة نتذكرهم كزعماء كتلة وطنية اتحدوا ليصنعوا استقلال سوريا، نذكرهم دائما كرجال كانوا بقلب واحد. لهم مصالحهم: نعم، لهم أخطاؤهم: نعم، لهم نزواتهم ورغباتهم: نعم، لهم طموحهم ومكائدهم: نعم؛ لكنهم كانوا يعملون لأجل وطن يستعد ليولد بعد عصور مقيتة من الاستعمار العثماني والفرنسي باقتصاد قوي وسياسة أقوى.
لكن اليوم لم تفرز كل الدماء السورية الطاهرة التي سالت زعيمًا يقود سوريا إلى بر الأمان، لقد جعل رجالات النظام والمعارضة أنفسهم “كركوزات” و”دمى” في لعبة الأمم وأدوات في أيدي الدول التي تتحكم بسير الصراع فيها، فكانوا أنصاف رجال لم يستطيعوا الذود عن بلدهم التي يغزوها شذاذ الأفاق ويعيثون فيها خرابًا على خراب، ودمارًا على دمار، ويستبيحون دماء السوريين. ترك “لا زعماء” سوريا اليوم بلدهم ليجعلوا من مهد الحضارات مكب نفايات لحثالات البشر.. أسفي عليك يا بلد لم تنتج كل تلك الدماء المهدورة، لأجل حريتك، شخصًا واحدًا فقط يستحق أن يكون زعيمًا يليق بك.
المصدر التراصوت