الدكتور رضا العطار
شعراء الخمرة عبر التاريخ الأنساني كثيرون, يقفون أمام إله الخمر( باخوس ) في رتل طويل يمتد عبر القرون يحملون كؤوسهم المترعة وهي تتفاوت في الحجم تفاوت عشقهم وعطشهم ليعُبّوا من مجاج اكسيرها الخالد، والرتل الطويل يقف اجلالا امام الرب باخوس الذي يعمّد ويبارك، والعشاق يزدادون أواما، فلا من صد يرتوي ولا من عاشق يملّ، حسبما قال عنها المفكر الاسلامي المتصوف عمر بن فارض :
ولا قبلها قبلُ ولا بعدَها بعدُ * وقبلية الابعاد فهي لها حتمُ
و عشاق الخمرة من شعراء العربية ثلاثة : اولهم الشاعر الجاهلي الأعشى، صناجة العرب الذي كتب عنه سامي الكيالي يقول :
( ولما سمع هذا الشاعر الكبير بظهور الاسلام ورسالة محمد (ص) نظم قصيدة في حق الرسول ثم اتجه نحو مكة ليعلن اسلامه، وبينما هو راكب ناقته لقيه بعض المشركين وقالوا له : الى اين ذاهب ؟ فأخبرهم بأنه يريد محمد . فقالوا : خير لك ان لا تقابله … فأنه يأمرك بالصلاة، فقال ان خدمة الرب واجبة، فقالوا : انه يأمرك بأعطاء المال الى الفقراء، : فأجاب: ان عمل المعروف واجب . فقالوا انه ينهي عن الزنى، فأجابهم هو فحش وقد صرت شيخا فلا احتاجه، فقالوا له : انه ينهى عن شرب الخمر، هنا وقف وقال : أما هذا فأني لا اصبر عليه ورجع الى حيث اتى … وهو ينشد :
وكأس كعين الديك باكرت شربها * بفتيان صدق والنواقيس تضرب
سلاف كأن الزعفران عندما * يصفق في ناجودها ثم تقطب
لها ارج في البيت عال كأنما * ألمّ به تجرِ دارين اركُبُ
وعاشق الخمرة الثاني هو الأخطل , الشاعر النصراني الذي كان يرتاد وبشكل دائم على مجلس الخليفة عبد الملك بن مروان , فيدخل عليه مجلسه وهو يترنح سكرا، وصليبه يتدلى على صدره. وحدث مرة انه دخل مجلسه منتشيا، مرتجلا النظم التالي متفاخرا على الخليفة :
اذا ما نديمي علّني ثم علّني * ثلاث زجاجات لهن هديرُ
خرجت اجرّ الذيل زهوا كأنني * عليك أمير المؤمنين أميرُ
لكن مع ذلك لم يعاقبه الخليفة اكراما لشعره الذي وظّفه في ترويج سياسة بني امية.
وظل لواء شعر الخمرة يرفرف عاليا الى ان ظهرابو نؤاس فغدا سلطانه المطلق .
اذا خطرت فيك الهموم فداوها * بكأسك حتى لا تكون همومُ
ادرها وخذها قهوة بابلية * لها بين بُصرى والعراق كروم
لها من ذكي المسك ريحُ ذكية * ومن طيب ريح الزعفران نسيم
الى بيت خمار أفاد زحامه * له ثروة والوجه منه بهيم
فقلت : بكم الرطل ؟ فقالت بأصفر * فحزت زقاقا ووزرهن عظيم
فمتعتُ نفسي والندامى بشربها * فهذا شقاء مرّ بي ونعيم
لعمري لئن لم يغفر الله ذنبها * فإن عذابي في الحساب اليم
وفي معرض المفارقة الشعرية يلتقي ابو نؤاس مع شعراء الاعشى والاخطل بأشياء ويمتاز عنهم بأخرى. وهو في الحالتين يبدواروع اسلوبا وادق تعبيرا واجمل صورة.
وفي القصيدة التالية يصف الخمرة وكأنها تنير ظلمة الليل.
صفراء لا تنزل الاحزان ساحتها * لو مسها حجر، مسّته سرّاء
فلو مزجت بها نورا لمازجها * حتى تولد انوارا واضواء
لقد انتشر في العهد العباسي في العراق مظاهر التألق في الازياء والتأنق في المراسيم والتهادي بالورد فظهر لدى العوائل البغدادية شغف في تزيين بيوتهم بألوان من الزهور، تطفح اجوائها بشذى عطرها الفواح. وعلى اثر ذلك كثرت حقول الورد في ضواحي العاصمة وفي هذا السياق يصف الشاعر ابن جهم نضارة الورد وسحر الخمر قوله:
لم يضحك الورد الاّ حين اعجبه * حسن الرياض وصوت الطائر الغرد
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها * وراحت الراح في اثوابها الجدد