عبد الله حبه
ربما لا يوجد شيء يؤخر التقدم الثقافي في اي بلد مثل الرقابة. وقد لعبت الرقابة الحكومية العراقية على المصنفات المسرحية دوراً بشعاً في عرقلة تطور الفن المسرحي في العراق منذ نشوئه في الثلاثينات من القرن الماضي. وكان المسرحيون يحاولون بكل السبل الالتفاف على الرقابة عن طريق العلاقات الشخصية او تغيير بعض الجمل او الشخصيات في النص المسرحي لإرضاء الموظف المسؤول عن الرقابة.
على سبيل المثال عمد الفنان حقي الشبلي لدى اخراج مسرحية ” يوليوس قيصر” لشكسبير في معهد الفنون الجميلة الى إجراء تغييرات جذرية في النص المسرحي. فبالاضافة الى حذف الأدوار النسائية لعدم وجود فتاة محترمة يمكن ان تعتلي خشبة المسرح ، أدخل الشبلي تعديلات كبيرة في النص الشكسبيري بغية عدم تفسير هيئة الرقابة لها ، وكان عضوا فيها ، بشكل قد يضر بالسلطة . وبلغ الأمر حتى ادخال جملة ” عاش الملك ” على لسان انطونيو بعد جملة شكسبير” مات القيصر”. وكذلك اضافة مشهد تتويج اوكتافيوس لأن المسرحية اخرجت بمناسبة اعتلاء الملك فيصل الثاني عرش العراق. واطلعني الفنان يوسف العاني على نصوص بعض مسرحياته بعد ان اجرى الرقيب شتى التعديلات او الحذف فيها، واطلعت ” ملاحظات” الرقابة على نصوص مسرحية لمؤلفين آخرين منعتها الرقابة . وكان الرقيب يخشى من اي نص لكاتب روسي، وهذا ما حدث لمسرحية ” المفتش العام” للكاتب الروسي نيقولاي غوغول التي قررت الفرقة الشعبية للتمثيل تقديمها في ثانوية الكاظمية عام 1956 . فقد كتب الرقيب على هامش النص المسرحي “ان غوغول شيوعي معروف “، ولا يجوز تقديم أعماله في العراق الذي لا يقبل بالشيوعية. طبعا ان هذا القرار يدل على المستوى المنحط لمعارف الرقيب الأدبية ولاسيما في الأدب العالمي لان غوغول عاش قبل ظهور الشيوعية في أوروبا بوقت طويل. وعموما عانت جميع الفرق المسرحية من مقص الرقيب سواء في العهد الملكي ام في العهود التالية، حيث كانت الرقابة صاحبة القرار الاخير في تقديم اي عرض مسرحي. وطبعا تتكرر القصة نفسها فإما ان يكون الرقيب جاهلا ولا علاقة له بالثقافة المسرحية او ان يكون موظفا يخشى على مقعده الوظيفي فيمنع من جانب الحذر فحسب اي شيء تشم منه رائحة نقد او فضح لمساوئ المجتمع.
والحقيقة ان إقدام الفنان جعفر السعدي ( 1921-2005) على اخراج “المفتش العام” لنيقولاي غوغول وحماس اعضاء الفرقة في العمل على قاعة مسرح ثانوية الكاظمية حيث جرت البروفات يعزى الى ايمانهم باحتمال التهرب من الرقابة لأن احدث المسرحية تجري في بلاد بعيدة وشخوصها أجنبية ولا علاقة لذلك كله بالواقع العراقي آنذاك. وربما اراد السعدي تحدي الرقابة على هذا الأساس. وقد أيد فكرة اخراج المسرحية رئيس الفرقة عبدالكريم هادي الحميد المحامي الذي تولى تمويل صنع الديكورات والأزياء وكان غالبا ما يحضر البروفات بمشاركة بدري حسون فريد وليلى العبيدي وعلي الوردي وعلي داود وآخرين كنت واحدا منهم، حيث صعدت خشبة المسرح لأول مرة لأداء دور دوبتشينسكي في المسرحية المذكورة مع صديق طفولتي منير عبد الأمير الذي أدى دور بوبتشينسكي الشخصية الهزلية الثانية في المسرحية. علما ان جعفر السعدي كان من اصحاب المواهب الفطرية في التمثيل شأنه شأن حقي الشبلى وابراهيم جلال ويوسف العاني وغيرهم من رواد المسرح العراقي.
ولم يكن جعفر السعدي انذاك قد سافر الى شيكاغو لدراسة الاخراج المسرحي، فقد سافر الى امريكا في اواخر الخمسينات.
ولهذا كان تعامله مع النص المسرحي والممثلين في بروفات ” المفتش العام” يتسم بالسذاجة في غالب الأحيان.
ولابد من الإشارة الى ان جعفر السعدي وجميع الممثلين لم تكن لهم معرفة سابقة بأدب غوغول ولم يعرفوا خلفيات كتابة هذه المسرحية وكذلك اختيار غوغول للاسماء حيث كانوا جميعا ” أسم على مسمى”. وقد عرفت بعد سنوات طويلة من وجودي في روسيا ان غوغول كان يطلق على شخوصه تسميات ذات دلالة . فمثلا أطلق على بطل رواية “المعطف” اسم اكاكي اكاكيتش مأخوذاً من كلمة اكاكي وجذرها الروسي الرجل الوديع والمطيع للجميع. وتعني اسماء ساباكيفيتش وكوروبوتشكا ومانيلوف في رواية ” الأنفس الميتة” معنى ” بوز الكلب ” و”العلبة التي يجمع فيها كل شيء ” و”المهذار الكثير الوعود”. وفي مسرحية ” المفتش العام ” تبرز شخصية “ديرجي موردا”، ومعناها الشرطي الغليظ الذي ينفذ أوامر الرؤساء بلا تفكير. وبطل المسرحية “خليستاكوف”،وجذرها الروسي الكذاب والوقح والمحتال والعنيف، واسم شخصية “بوبتشينسكي ” مأخوذ من كلمة بوبيتش أي الأحمق. وهكذا نجد ان جميع اسماء شخوص المسرحية لها جذور ذوات معاني ما في اللغة الروسية وتحدد سلوكها. وطبعا نحن لم نعرف كل ذلك لدى أداء بروفات ” المفتش العام”، فكانت بالنسبة لنا مجرد اسماء اجنبية. وجرى التعامل مع النص المسرحي بصورة سطحية وانصب اهتمامنا على الجانب الهزلي فقط.
من جانب آخر لم نعرف كيف كتب غوغول مسرحيته. فقد أشار الباحثون الى ان الشاعر الكسندر بوشكين طرح الفكرة على صديقه غوغول ودعاه الى كتاب مسرحية عنها. وعندما مضى الكاتب في تأليفها في عام 1835 شعر بالعجز عن إتمامها، وعندئذ لقي التشجيع من جانب بوشكين أيضا. وقال غوغول لدى كتابة المسرحية انه أراد ان يكشف عيوب ونقائص المجتمع الروسي وليس نقد السلطة. لكن الجمهور اعتبر أحداثها بالذات كنقد للسلطة التي كانت تشجع الفساد والرشوة. وعندما قرأ غوغول المسرحية لأول مرة في بيت الشاعر فاسيلي جوكوفسكي وبحضور عدد كبير من الأدباء بينهم بوشكين وفيازيمسكي وتورجينيف اعجب بها الجميع. وتقرر بعد ذلك تقديمها على خشبة المسرح. وسعى جوكوفسكي الى اقناع القيصر لعرضها حيث انه لا يوجد فيها ما يسيء الى السلطة وهي مجرد مشاهد هزلية تفضح موظفي الأقاليم الحمقى. وقد حضر القيصر العرض في مسرح الكسندرينسكي في سانكت- بطرسبورغ وضحك بملء شدقيه لدى متابعة أحداثها. لكن العروض التالية في مسارح موسكو والأقاليم أثارت ردود فعل آخرى حيث أثارت انزعاج الموظفين والتجار ورجال الشرطة واعتبروها إساءة لهم. وعندئذ بدأت الرقابة عملها ومنعت عرض المسرحية مرارا.
لقد ترجمت “المفتش العام ” الى اللغات الأوروبية وقدمت على مسارح باريس ولا يبزيغ وبراغ وبلغراد وبروكسل ودرسدن ولندن ووارشو وغيرها. كما ترجمت الى اللغات الشرقية ومنها الفارسية، ولكن تم تغيير شخصية الأم بالأخت الثانية باعتبار ان التقاليد الاسلامية لا تجيز للمرأة المتزوجة ان تغازل رجلا غريبا كما في المسرحية. بينما ترجمت المسرحية الى العربية في الخمسينات فقط بدون ان ترفق بها اية شروح حول الكاتب ومسرحيته. ولكن لم يتجرأ احد – حسب علمي – على اخراجها في العراق بعد محاولة جعفر السعدي التي وأدتها الرقابة في مهدها. وما أحوجنا اليوم الى عرض ” المفتش العام” في بغداد فهي تعكس الكثير من واقعنا البائس الراهن. ولكن اخشى من أن الرقيب سيمنعها أيضا.