بعد 8 مارس (آذار) 1963 لم يعد في سوريا صحافة مستقلة. أغلق «البعث» الصحف الكبرى، مثل «الرأي العام» و«النصر»، وأرسل كبار رجالها، مثل الأستاذ وديع الصيداوي إلى السجون، واستبدل بكل شيء صحف الدولة على الطريقة السوفياتية: رأي واحد.
الجيل الأول قرر التقاعد والانعزال. والجيل التالي توزع في معظمه على صحف العالم العربي في الكويت ولبنان ومصر. غسان الإمام كان من أبرز هؤلاء. بدأ أولاً في بيروت، وعندما اشتعلت الحرب وانتقلت الصحافة إلى باريس، انتقل معها، ركناً من أركانها وعَلماً من أعلامها وشجاعاً من شجعانها.
عندما أغلقت «الوطن العربي» في باريس، كانت «الشرق الأوسط» تنتظر قلمه في لندن. ومن باريس موطن وحدته ومنفاه السياسي، راح يرسل المادة التي تميَّز بها على الدوام: المقال الثري بالمعلومات والاستعادات والثقافة. وقد أضافت باريس إلى ثقافته العربية المهنية بُعداً جديداً، إذ أخذ يهتم بشؤون أوروبا وآدابها.
حاولت الحكومة السورية إقناعه بالعودة إلى دمشق متناسية كتاباته المعارضة، لكنه فضل البقاء في الخارج. ولا أستطيع القول كيف كان نمط حياته لأنني لم ألتقه مرة واحدة في أي مكان. فقد أدركتُ أنه يعيش بلا حياة اجتماعية، ولم أشأ أن أتطفل على وحدته. كما أنه كان لا يحضر أي مؤتمر أو أي منتدى، متابعاً شؤون الوطن والأمة من برجه المغلق.
حتى صورته بالأبيض والأسود في الجريدة لم يغيرها، فظلت الصورة الوحيدة التي لا تعترف بعصر الألوان، لكنه كان مطلعاً على آخر ما في العلوم والأفكار. وكان عندما لا يجد موضوعاً أسبوعياً سياسياً مناسباً، يلجأ إلى مخزونه الثقافي والعلمي، مخافة أن يكرر، أو يبتذل. وطوال ثلاثين عاماً لم ألحظ أنه استخدم عبارة مبتذلة برغم التشدد في مواقفه. ولم يثقل على قرائه بالنوافل والرخويات.
بغيابه تخسر الصحافة العربية كاتباً عريقاً ومحترماً، وليس فقط الصحافة السورية، مع أن بلده سوف يظل يذكره كما يتذكر تلك الأقلام التي صنعت صحافته المستقلة بعيد الاستقلال.
المصدر الشرق الأوسط