محتجزة منذ خمس سنوات مع أختي في هذا السجن الذي يطلق عليه بلهجة أهل السويداء بـ ” غرفة المقاطيع ” وهذا كنوع من تجميل الحقائق ليس أكثر، فمهما حاول الجميع إضفاء شرعية عليه إلا أنه في النهاية وبالنسبة لي هو سجن، ووالدي رحمه الله هو من وقع على أمر إقامتي به بالاتفاق مع إخوتي.
حكايتي بدأت عندما حصلت على الطلاق من زوجي بعد سنوات من حياة مريرة معه، لأعود من جديد إلى منزل أهلي وأسكن مع أبي الطاعن في السن حيث كرست نفسي للعناية به ورفضت أي زواج آخر لأن تجربتي الأولى خلقت حواجز بيني وبين الزواج. وبعد سنة، تعرض زوج أختي لحادث سيارة أدى إلى وفاته، مما اضطر أختي وأطفالها الثلاثة للعيش معنا في منزل أهلي لضيق ذات اليد؛ حيث أن زوجها المتوفي كانت حالته المادية سيئة فالمنزل كان مستأجراً وراتبها الذي تحصل عليه من وظيفتها بالكاد يكفي مصروف أطفالها الذي عجز عنه حتى أهل زوجها المرحوم لفقر حالهم.
عندما كان والدي حياً لم نحتج أي شيء، لكن بعد وفاته جاء إخوتي وطلبوا منا مغادرة منزل العائلة والانتقال الى غرفة تم بناؤها بجانب المنزل خصصت لي ولأختي تسمى ” غرفة المقاطيع ” وتم حرماننا من كل الميراث بينما سكن أخي الكبير في منزل العائلة مع زوجته وأطفاله بعد أن قام بتأجير منزله الذي كان يسكن فيه، ودون أن يقدم لنا أي مصروف شهري. قرار حرماننا من الورثة جاء وفق وصية كتبها والدي أعطى فيها كل أملاكه لإخوتي الذكور الثلاثة، وتم الاتفاق على بناء غرفة بجانب منزل العائلة لتصبح سكناً لي ولأختي. حرمان يعتمد على وصية والمحكمة الخاصة بالموحدين الدروز توافق عليها رغم أن الأحكام الخاصة بالموحدين الدروز تساوي بالميراث بين المرأة والرجل حيث يتم تقسيم الورثة بالتساوي بينهما. لكن هذه الأحكام كلها تسقط عند المحكمة بمجرد وجود وصية، حتى ولو كانت تحرم كل الاناث من حقوقهم؛ كما حرمت أنا وأختي من حقوقي.
سجن صغير اسمه “غرفة المقاطيع” أعيش فيه مع أختي، ضمن سجن أكبر هو مجتمع نسي اسمي واسم أختي وأصبحنا يطلق علينا “المطلقة وأختها الأرملة”. مجتمع لايرحم ويتنقد أي حركة لنا ومستعد لرمي التهم بحقنا دون أي دليل، الأمر الذي زاد في وحدتنا أنا واختي ولتصبح حياتنا مقتصرة على الوظيفة والمنزل فقط.
ما سبق هو قصة مختصرة لحكاية سيدة مطلقة من السويداء طلبت عدم التصريح عن اسمها، والمقاطيع وفق لهجة أهل السويداء هي جمع لكلمة مقطوع وبمعنى أوضح ( الشخص الذي لا مكان له)، ورغم أن الشريعة الخاصة بالموحدين الدروز كما ذكر سابقاً تساوي بين المرأة والرجل بالميراث إلا أن الوصية تنسف هذا الحق من جذوره، وبالتالي تحرم المرأة ظلماً من حقها بالميراث، وغالبا ما تحرم من نصيبها بسبب العادات والتقاليد إضافة إلى قصور قانون الأحوال الشخصية الذي أقر في خمسينيات القرن الماضي بالرغم من أن أحكام الشرعية التي ساوت بينها وبين الرجل دون أي تمييز، ما يجعلها تتعرض لظلم وقهر اجتماعي كبير.
“لا عدل على هذه الأرض” تقولها سمر (اسم مستعار) (57 عاما)، منذ كنت صغيرة كان والدي وأقاربي يقولون لي “أنت صبية ويجب عليك أن تساعدي في الأعمال المنزلية”، أذكر أن عمري لم يكن تجاوز الـ8 سنوات عندما كانت أمي توقظني لأساعدها بحلب الغنم وإخراجها للراعي، ناهيك عن موسم الحصاد وغيرها من الأعمال وخدمة أخوتي الذكور ووالدي، وكل ذلك في النهاية بلا أي تقدير لأنه واجب علي. تتابع سمر في حديثها مع “أنا إنسان”، “تأخرت حتى الثلاثين لتزوجت وعانيت من صعوبات عدة في الحمل إلى أن رزقت بولد بقي وحيداً. ولأسباب عديدة انفصلت عن زوجي، وبالطبع عدت إلى منزل والدي الذي تقاسمه أخوتي ولم يتبقى لي إلا غرفة المقاطيع التي تعيش بها أمي التي جاوز عمرها الـ80 عاماً. هذه الغرفة المتطرفة ضمن منزلنا الريفي، وقد بني لها حديثاً مطبخاً وحماماً بمساحة صغيرة وسقفاً من الصفيح. عشت هناك نحو عامين، كل يوم كان هناك مشكلة مع أمي التي لم تعد تحتمل الحركة والضجيج، وأخوتي وأبنائهم؛ فابني هو الغريب بالنسبة لهم بل العدو، حتى أنهم قالوا لي أعيدي الولد لأبيه حتى نساعدك، ما اضطرني للعمل واستئجار غرفة خارج منزل والدي التي أصبحت به غريبة، كما أنه لم نأخذ أنا أو أخواتي الأربع أي شيء من ورثة والدي.
ليس حال “سلمى” (45 عاما) أفضل من “سمر”، فهي أيضا تعيش في غرفة بمنزل والدها، مع أختيها اللتان أيضا لم تتزوجا بالرغم من أنهما يكبرانها سناً. فهما يعيشان في غرفة أشبه بصالة حيث الطريق من غرف النوم والمطبخ إلى الصالون يمر عبرها، فلا خصوصية لهم ولا وقت راحة، بل هن أيضاً مفروض عليهن رعاية ولدي أخاهم الذي ورث منزل والدهم. تقول سلمى “كم كنت أتمنى لو أن لي غرفة مستقلة ولو أن أبي أورثنا قطعة أرض ومحل تجاري نعيش منه، لكن للأسف لم يترك لنا سوى هذه الغرفة التي ستعود حتى بعد موتنا لأخانا”. مبينة أن قصتهم قد تكون أخف وطأة من قصة جارتهم التي عاشت نحو 20 عاماً في غرفة تكاد لا تكون صالحة لتكون زريبة للحيونات بعد أن مات زوجها وهي في السبعين من العمر ولم تنجب له سوى فتاة، ما أجبرها على ترك منزلها والرجوع إلى منزل أخيها، حيث لم يوصي لها بشيء من ممتلكاته، فقد أوصى بها جميعاً لأبناء أخوته ولم يترك لابنته الوحيدة سوى حق الانتفاع من شقة سكنية. وأضافت سلمى “كانت جارتنا تهان وتجوّع، وفي أخر أيامها كانت تضرب من أخوها وزوجته، وخاصة بعدما أصيبت بمرض الخرف. وكثيرة هي قصص النساء التي ذاقت المر طوال سنوات، جراء حرمانها من الميراث”.
قلة هن النساء اللواتي قررن أن يحصلن على حقهن عبر القضاء، مثل “سوزان” التي رفعت دعوى حصر إرث على إخوتها لتحصل على حصتها من تركة والدها. لكنها تقول لـ”أنا إنسان”، “مر علينا 3 سنوات في المحاكم ومازال القضاء لم يحكم بالدعوى، إضافة إلى القطيعة التي وقعت بيننا والكثير من المشاكل العائلية. واليوم مازالت مصرة على أن آخذ حقي ليس لحاجتي المادية له لكن فقط نكاية بهم”.
تقول لنا المحامية مها نعيم ابنة السويداء، “ما يؤدي إلى حرمان الفتاة من الميراث لدى طائفة الموحدين الدروز هو نص الوصية، وهو أقوى مستند قانوني لتحديد توزيع الإرث، وقد درجت العادات والتقاليد والأعراف لدى جزء من المجتمع على حرمان الفتاة من حقها في الميراث أو منحها حق الانتفاع خلال حياتها فقط، حيث نصت المادة 307 من قانون الأحوال الشخصية على تنفيذ الوصية للوارث ولغيره بالثلث وبأكثر منه، وهذا منح الموصي حق الإيصاء بماله وممتلكاته لمن شاء من ورثته أو غير ورثته، فالوصية لدى الموحدين مستثناة مما جاء به الشرع الإسلامي، حيث لا يجوز الوصية لوارث فيما يتجاوز الثلث”. وأوضحت أن “اعتماد الوصية يعود إلى العقل، فالعاقل له حق التصرف بماله كيفما يشاء ولمن يشاء وفق إرادته دون قيود”. وبينت أن “الدائرة الشرعية في دمشق بتاريخ 15/11/1956، أقرت بما يخص الوصية لدى الموحدين، أنه لإن كان نفاذ الوصية لدى الطائفة الدرزية للوارث ولغيره بالثلث وبأكثر من الثلث منصوص عليه في المادة 307 للأحوال الشخصية، فإن تعليق الوصية بالشرط جائر إذا كان الشرط صحيحاً، وعليه فإن تقييد الموصي وصيته لبناته بثلث تركته بامتناعهن عن الزواج مخالف للشريعة، مما يوجب إلغاء هذا الشرط من الوصية”.
وقالت نعيم “غرفة المقاطيع، المتعارف عليها كحصة المرأة في إرث زوجها، فهي غرفة للمعيشة في منزل والد المرأة، ويقصد بها مكان سكن اللواتي انقطعن عن الرجال لعدم الزواج أو التفريق وغيرها من الحالات، وبالحقيقة هذه المفردة تحمل من المهانة والذل الكثير للنساء، بل إنها مخالفة للنظام العام”. وأعربت عن اعتقادها “أن الموروث الشعبي الجائر لحق النساء، يتغير مع تغير واقع المرأة الاقتصادي والاجتماعي، بالرغم من أن هناك أخوة يمارسون ابتزاز عاطفي على أخواتهن ليتنازلن عن حقوقهم، تحت ما يسمى بالتخارج”.
الشيخ يوسف جربوع شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
بدوره، قال شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز يوسف جربوع، لـ”أنا إنسان”، “لا تفرق الشريعة لدى الموحدين بين الذكر والأنثى في الحقوق، وفي الإرث تعامل الفتات معاملة الشاب ولا أفضلية لأحدهم على الأخر، ولكن المجتمع تأثر بالبيئة المحيطة وخاصة البدوية”. وبين أن الوصية لدى الموحدين هي فريضة على الموحد، لا يجوز المساس بها، تقوم على العقل القادر على توظيف الوصية ببعد أخلاقي والمقترن بعدم الظلم، ولكن هناك من يسيء استخدام هذه الفريضة لجهله بحكمة مقصدها. ورأى جربوع أن “قانون الأحوال الشخصية قاصر عن الشريعة التوحيدية، ولا يوجد مانع من إعادة النظر به، وخاصة بعد تطور وعي المجتمع، وانتفاء كثير من الأسباب الدافعة بالمجتمع للإجحاف بحق المرأة، كخوف العائلة من خسارة ملكية العائلة الزراعية لصالح عائلة أخرى، حيث كانت تقرن مكانة العائلة بملكيتها التي كانت يجب أن تبقى بيد الذكور منها، فهم الذين يحملون اسمها ومسؤولية المحافظة على مكانتها”. ودعا شيخ العقل الموحدين إلى إنصاف المرأة وعدم تمييز الذكر على حسابها، مطبقين ما تنص عليه شريعة التوحيد، وتحكيم العقل في الوصية.
بات من الضروري من مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز العمل على ايجاد حل لهذه العادة الشاذة عن قيم مجتمع الموحدين الدروز، هذا المجتمع الذي لطالما احترم المرأة وكرمها وكانت شريكاً له في المعارك ضد كل من حاول الاعتداء عليه، فضلاً أن الكثير من العائلات الدرزية تعطي المرأة حقها بالميراث وترفض مبدأ الوصية في الإرث، وهناك المئات من الامثلة التي يمكن طرحها لعائلات وزعت الارث بالتساوي بين الذكور والإناث وبعضهم وزع الارث وفق الشريعة الاسلامية واصبح من الواجب العمل عبر تشكيل لجنة من مشايخ عقل الطائفة بالتعاون مع المجتمع المدني لوضع حلول لهذه العادة ووقف استغلال البعض للوصية لحرمان النساء من حقوقهن.