الأمر الخفي وراء أقنعة البراءة قد يلتهب.
لا رحمة ولا شفقة بين سرب الغراب
من يشفي الجراح إن غاب الجراح؟
عصمت شاهين دوسكي
الجزء 11
الاستهلال الأولي لقصيدة ” غراب لا حمام ” للشاعر إبراهيم يلدا ، استهلال تساؤلي بعد حياة هادئة وجنان خضر وبساطة رائدة وفرح غامر بالآتي من بعيد وقريب ، من زمن عتيق عميق ، إلى أن ظهرت جماعة وظهورهم جماعات مختلفة بين أوجه غراب أو حمام بين هبوب حرب أو سلام بين أحلام وآلام ، والجهل بالأشياء يفرز القلق والحيرة وعدم الاطمئنان وكأن هناك أمر خفي وراء الأسوار وقد دبر ونظم يا ترى هل ذئاب ام أثمار من الأطياف ، يلبسون أقنعة البراءة والنقاء والصفاء ، ما هذه الفئة الغريبة ؟ ما هذه الجماعة التي هبت ؟ ينيرون الشموع أم يطفئون الشموع ؟هل يتولاهم الحق أم يقطعون الرمق ؟ هذه التساؤلات تراءت حينما جد الجديد وحمى الحديد وخلق السهم والوعيد ، ومن الطبيعي في وعي لهذه الحركات والخطوب إنهالت الوقائع بين حلم مجهول ومصير أمر مقصود .
(( كنت أحيى حياة هادئة
بسيطة كالأطفال
يفرحون مع البعيد والقريب
في بلادنا بلاد آشور الصغيرة منذ زمن بعيد
إلى أن قدم الأخوة من بعيد
جاؤوا طائرين مبشرين
لم نكن ندري كانوا غرابا لا حمام
أو ذئابا متشحين بالخراف )) .
ومن وصف الشاعر إبراهيم يلدا البديع ظهروا إنهم قطيع ، قطيع من السفاحين والطاغين ، يلهثون وراء رغباتهم وشهواتهم وملذاتهم ، لم يجدوا مانعا أن يقتلوا ويذبحوا ويغتصبوا ويدمروا ويخربوا ويثكلوا ويرملوا ويفرقوا ” ألقوا الشقاق بين الآباء والأبناء ” هم وحوش العصر غسلوا أدمغة الناس لا باللين بل بالمنجل والفأس ” جعلوا من الجيران كلابا قذرة ” فالشيطان بينهم إله وطاغوت كبير في دعواتهم يقربون له الرؤوس قرابين ويروونه بدماء الضحايا والمساكين والأبرياء ، دمارهم يمتد حتى يصيب الحجر والأوراق والشجر ، اغتصبوا الأعماق واحرقوا الديار واطفؤوا ضوء النهار.
(( القوا الشقاق بين الآباء والأبناء
وجعلوا من الجيران كلابا قذرة
ومدوا معاولهم صوب جذوع الأشجار
ليتركوا جذورهم تبكي على الأوراق ))
إنها صور من قيامة الاضطهاد والرعب والهول مستخدمين كل الوسائل القديمة والحديثة لدمار الأرض والإنسان بشعور وحشي يدفع إلى الانهيار ، خلقوا التشرد والتهجير والنزوح واللجوء والتدمير ، هربت القلوب وراء الحدود والأسوار وأصبحوا في تيه بين أوطان صغيرة وكبيرة بعيدة عن الحقول الخضر والبيوت والأعشاش الطرية الملساء ، بين قطرات الندى والصفاء في غربة قاسية ولوعة شقية فلا رحمة ولا شفقة ولا حنان في سرب الغراب ، ينهش الجثث والقلوب على الأرصفة وبين الأزقة المرمية بين الخضوع والانكسار والاستسلام المر والانهيار .
(( بددونا أبناء الشياطين
مثلما تبدد الرياح الغيوم الممطرة
فتوزعنا في كل الأوطان الصغيرة منها والكبيرة
بعيدا عن الحقول والبيوت والأعشاش )) .
هذه الصور المهارة التي مر ذكرها بدخول الجماعة تتكرر في كل عصر بصور مختلفة ولو كتب التاريخ عنها لاحتاجت إلى مجلدات من جوف وهول المستبدين الطاغين بمناهجهم الهوجاء أثاروها وبانقلاباتهم الرعناء دمروها ، دمروا كل الجنان والبنيان والعمران والأبدان ، فليس البسطاء والفقراء خلقوا ووجدوا هذا الأمر ، بل تفشي الأنانية والفساد والرماد وكثرة الصراعات على المناصب والحداد وغياب الأبطال والقادة وغياب الحكماء والعلماء والأدباء وهذا يعطي سببا لضياع أي بلد في العالم ، ولا يقدر أي مسئول ضعيف الإرادة والسياسة والاقتصاد حتى لو ملأت الترسانة الحربية وحتى لو كان أشدهم استبدادا على تأجيل الخراب والدمار والانهيار لأنهم أصلا ضعفاء وفي بطونهم السحت الحرام والغباء ، فهم بجهلهم يجددون الواقعات وتنفعل النازلات ومحركها هوج الجماعات وشروخ الأسوار والحدود والمعاناة .
(( فأين هم من يحملون
أسماء آشور وسركون
فلم يبقى لدينا سنحاريب
ولا من يحملون اسم شميران
فقدنا الأمل أن يبعث لنا من جديد قاطيني
أو تاريخا يصنع لنا الأحلام
من الذي سيردد أن لم يكن هناك من يسمع
ومن الذي سيسمع أن لم يكن هناك من يردد )) .
هذه الجماعة تفكر وتنظم وتقود بأساليب شتى من الاعتقادات لعوامل بعيدة وقريبة مدركة للشر والظلام ، وتربة النهرين تربة خصبة غنية نفيسة تنبت فيها ما ترمى من البذور بقوة جديدة تدهش الرائي تشبه في ولادتها ووجودها انقضاض الصاعقة ، في خضم كل هذه التراكمات والإرهاصات والغزوات والآلام والجراح ، يتجلى هاجس فمن يشفي الجراح إن غاب الجراح ؟ الكل هاجر لم يبق طبيب ولا مداوي ولا حبيب ، فكيف لا يلعب الموت لعبته الخاصة بالأجساد ” سيلعب الموت في كل الأجساد ” أين الخلاص في معترك الهول والرعب والسراب ؟ ” انهضوا – اغرفوا – استفيقوا – ارحموا ” موجات من الغضب يطلقها الشاعر بأوامر إنسانية وفي نفس الوقت صور من التوسل والرجاء لكي يظل حلم الوجود وتحيى الأرواح على يد المرسلين .
(( طالما لا أطباء لنا ليشفوا مرضانا
سيلعب الموت في كل الأجساد
مثلما تلعب الحياة في جثة الأموات
انهضوا أيها الرجال الباقون
اغرفوا من حب أولئك غيارا
استفيقوا لحالنا قبل فوات الأوان
ارحموا آشور يخلص القادمين
ويحمي وجودنا على يد المرسلين )) .
هكذا يصف الشاعر إبراهيم يلدا ويفرق بين الغراب والحمام بين الطواغيت والأنبياء بين السفهاء والشرفاء بين الأجداد والآباء بين الولادة والأبناء بين الماضي والحاضر ومصير المستقبل في خانة الوجود وتلبية النداء ، إنها صور من ملحمة شعرية حضارية إنسانية لا تقيد بل تفتح نوافذ للفضاء والنقاء ، نلاحظ في هذا النص تأثيرات وتصورات لبناء المعنى التاريخي للوصول إلى نتيجة مرضية فليس هناك غموض في الصور الشعرية في زخم الأفعال الدالة على الحركة ودلالات ضمن روح النص ” غراب – حمام – آشور – جاءوا – ألقوا – جعلوا – مدوا – تركوا – بددوا ” وفي المقابل وحدة من الأوامر الأكثر فعلا وحركة ” انهضوا – اغرفوا – استفيقوا – ارحموا ” دالة على بناء النص وتماسكه ووحدته من الاستهلال إلى نهاية النص الشعري بفضاء فكري تأويلي يستند إليه أي قراءة حالية أو مستقبلية مع الإيحاء المشترك المنطوي تحت تلك الأفعال ، تمكن الشاعر إبراهيم يلدا من الوصول إلى وحدة متوازية مركزة بين نقيضين ” الغراب ، الحمام ” الحرب والسلام لتكون صورة إنسانية حضارية عصرية راقية تبقى أثرا لمدى الأجيال .
**************************************************
الرؤيا الإبراهيمية بين الموت والميلاد – الجزء 11 – طبع في أمريكا وفي مدينة
Des Plaines
دسبلين ،،، الينوي،،،، ,في مؤسسة
Press Teck .. بريس تيك . 2018 م