رغم تكرارنا كعرب مقولة تشرشل الخالدة عند انتهاء الحرب الكونية الثانية من أن بريطانيا بخير ما دام مرفقها القضائي بخير، إلا أن تلك المقولة لم تتجاوز الأذن إلى العقل والفعل، فتاريخنا الحديث يظهر بشكل واضح أن تخلف العرب بدأ عندما اختل ميزان العدالة وتم الاستهتار بمرفق القضاء وسلمت المحاكم للضباط من غير ذوي الاختصاص والخبرة في المحاكم العسكرية الكارثية الظالمة التي أنشئت في عهود الانقلابات العسكرية.
ففي العهد الملكي بمصر شكلت في فبراير 52 محكمة لمحاكمة أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة الفاشي وخمسة من رفاقه بتهمة خطيرة جدا هي حرق القاهرة وتدميرها والذي تسبب في موت الكثيرين وخسارة الملايين وكانت التهمة ثابتة عليه بشهادة العشرات من الشهود ومع ذلك سمح له برد رئيس المحكمة ومقاطعتها، بينما شهد شهر أغسطس 52 وبعد شهر من الانقلاب إنشاء محاكمات عسكرية يقودها الضباط لمحاكمة المئات من متظاهري كفر الدوار ولم يتح للمتهمين توكيل المحامين وصدرت أحكام الإعدام بحق العديد منهم وكرت السبحة، ففي عام 53 أنشئت «محكمة الثورة» العسكرية لمحاكمات رجال العهد الملكي وأغلبهم من الشخصيات الوطنية البارزة، وفي عام 54 أنشئت محكمة الشعب لمحاكمة جماعة الاخوان المسلمين وكان الضباط يرأسون تلك المحاكم ويقومون بدور الخصم والحكم بجهل فاضح لأبسط مبادئ العدالة.
وعلى شاكلة محكمتي الثورة والشعب المصريتين، أنشئت محاكم المهداوي الشهيرة في العراق والتي كانت تنقل على الهواء مباشرة بالإذاعة والتلفزيون وكان العراق الملكي هو أول دولة عربية بدأت بالبث التلفزيوني ومما جاء في محاضرها قول وزير الداخلية في العهد الملكي سعيد قزاز للمهداوي نصا «تستطيع محاكمتي ولكنك لا تستطيع إذلالي فأنا لا أهاب الموت وسأصعد الى المشنقة وأرى تحت قدمي رؤوسا لا تستحق الحياة»، وعندما طلبت منه زوجته الاعتذار للمحكمة مقابل تخفيف حكم الإعدام عنه رفض وقال لها «استعدي لأن تكوني أرملة» والغريب أن المهداوي الذي كان يهدد ويتوعد أبدى خوفا وجبنا شديدين عند القبض عليه بعد انقلاب عام 63 بعكس ابن خالته عبدالكريم قاسم.
وأمام محكمة المهداوي تمت محاكمة رئيس الوزراء العراقي الأسبق رشيد عالي الكيلاني ومعه ابن أخيه منذر الكيلاني وصديقه المحامي عبدالرحيم الراوي فتم صدور حكم ببراءته وحكم إعدام بحق ابن أخيه وصديقه وأثناء خروجهم من المحكمة التقوا المهداوي فسمع الاثنان رشيد عالي الكيلاني وهو يشكر المهداوي على عدالته، وانه لو كان منه لأصدر أحكاما أقسى على ابن أخيه وصديقه (أقسى من الإعدام؟) وطلب منه إبلاغ الزعيم رغبته في السفر (الهرب) صباح اليوم التالي، حينها غير منذر الكيلاني والراوي إفادتهما وأظهرا حقيقة انه كان يعد بالفعل لانقلاب ضد قاسم فتمت إعادة محاكمته وصدر حكم إعدام بحقه إلا أنه بقي في السجن وأطلق سراحه لاحقا وتوفي بعدها بسنوات قليلة في بيروت.
آخر محطة:
1- سأل المهداوي أحد المتهمين عن عمره فأجابه 43 عاما ثم سأله ان كان متزوجا فأجابه المتهم بالنفي، عندها وجد المهداوي الفرصة سانحة لتوجيه الشتائم المعتادة له بالقول إن الرجل الذي يفوت الأربعين دون زواج هو شاذ جنسيا (!)
حينها همس معاونه سعيد الشالي في إذنه بأن الزعيم عبدالكريم قاسم جاوز ذلك السن ولم يتزوج، حينها صرخ المهداوي ملدوغا.. إلا الزعيم العبقري عبدالكريم قاسم الله يحفظه.
2- رغم اختلال ميزان العدالة الشديد في محاكمات المهداوي الا انها كانت علنية وافضل كثيرا من محاكمة صدام في بداية عهده لمن ادعى انهم تآمروا عليه ولم تترك لهم فرصة الدفاع عن انفسهم وعذبوا وقطعوا وأذيبوا بالاحماض ولم ينج منهم احد.
* نقلا عن جريدة “الأنباء” الكويتية