تحت هذا العنوان أقام مركز الدراسات العربية و الافريقية في القاهرة سيمينارا كنت المتحدث الوحيد فيه يوم الأحد الماضي… حضر السيمينار مجموعة من مثقفي مصر و قد دارت نقاشات عديدة و طرحت أسئلة و تساؤلات كثيرة وعدت بتناولها في مقالات لأهميتها القصوى و أيضاً لان الوقت لم يسعفنا لمناقشتها في السيمينار بشكل تفصيلي…
في هذه السلسلة من المقالات سأحاول ان أناقش العديد من تلك التساؤلات و الأطروحات و لكن قبل ان أبدا اجد من الضروري ان أشير الى ملاحظتين مهمتين:
اولا… كنت قد كتبت قبل فترة مقالة عن داعش بعنوان ” داعش…و متاهة الفكر…1″ على أمل ان الحق بها مقالات اخرى تحت نفس العنوان…. اود هنا ان اعتذر لآني اخترت العنوان الحالي و هو عنوان السيمينار… لكن من الضروري ان نفهم ان الموضوع متصل بغض النظر عن الاختلاف في العنوانين… بل اعتقد من الضروري قراءة تلك المقالة لانها تشكل مدخلا مهما لهذه السلسلة..
ثانيا … ان اعلان الرئيس أوباما بالأمس عن استراتيجيته للقضاء على القضاء على داعش و بناء تحالف دولي و عربي من اجل ذلك … إنما هو دليل اخر على عولمة داعش … بل محاولة سياسية و أيديولوجية لمنح الشرعية لوجود داعش الذي قد يصل في مرحلة ما الى القبول و الاعتراف الدولي….( هذه جزئية مهمة سنناقشها فيما بعد)…
و لكن طالما ان عنوان السيمينار و بالتالي سلسلة المقالات أيضاً يبدأ بمفهوم العولمة فلابد ان نبدأ بملاحظات الدكتور سمير أمين … المفكر العالمي و صاحب مصطلح “العولمة” ترجمة عن اللغة الانكليزية
Globalisation..
الدكتور سمير أمين كان احد المشاركين في السيمينار و كان كالعادة نشطا و غزيرا بالأفكار و الأطروحات التي كان احدها هو : عدم وجود استراتيجيات لدى اي من القوى المحلية و الدولية في مسار العولمة الان… بل كما قال… ان الجميع بما فيها الولايات المتحدة و روسيا و غيرها و كذلك القوى المحلية في العراق و سوريا و دول الشرق الأوسط إنما يغلب على تحركاتها طابع رد الفعل ليس الا…
اتفق جداً مع الدكتور سمير في قضية طغيان رد الفعل على تحركات الجميع و التخبط الكبير في السياسات لكني اختلف معه على مبدأ عدم وجود استراتيجيات… أنا اعتقد بان هناك فوضى و صراع بين استراتيجيات مختلفة و ذلك بسبب وجود عاملين مهمين و هما:
اولا…لان عدد اللاعبين على المستوى الدولي قد كثر… و هؤلاء لا يقتصرون على وجود دول بل تجاوز ذلك الى منظمات و مؤسسات عابرة للحدود الدولة التقليدية سياسيا و اقتصادية و تنظيميا و أمنيا…الخ..
ثانيا… ان الجميع يشتركون في الإمكانيات الاستخباراتية و الاقتصادية و العسكرية و التكنولوجية بشكل او باخر و لذلك فان استراتيجياتهم تتشابه من جهة و من جهة أخرة تحتاج الى تعديلات و تغييرات مستمرة بسبب الصراع اليومي و تقارب و تداخلات جبهات الاشتباك الحقيقية و الفرضية…
في المحصلة فان العولمة قد قربت اجزاء العالم و جعلته قرية صغيرة كما يقال…. و في هذه القرية فان الجميع يعرف بعضهم البعض و بالاعتماد على القدرات التكنولوجية الهائلة و المتوفرة للجميع فان باستطاعة كل طرف التجسس على الاطراف الاخرى و معرفة نواياه و أهدافه و بذلك التمكن من بناء خطط جديدة او تعديل خطط موضوعة لمواجهة الخصم… هذا يؤدي الى تشابك خطوط الاستراتيجيات بشكل دائمي و الذي يستدعي تحويرات و تغييرات دائمية… و بالتالي أيضاً إخفاقات دائمية و صعوبة تحقيق الأهداف و التخبط… او كما يتراءى لنا..
بعد هذا… لابد ان نتذكر اننا نتحدث عن نوع من الصراع و التشابك يحدث على قمة العالم و يهدف الى الهيمنة و السيطرة على العالم من خلال مبادئ و سياسات اختصرت الرؤية الكونية الى زاوية احادية ترى العالم بكل اختلافاته من خلال اليات السوق…
و هنا….اعتقد ان هناك صراعا شديدا بين محور روسيا و الصين و ايران و محور أمريكا و الغرب التقليدي و اليابان و كوريا الجنوبية حول التطور الرأسمالي و محاولة السيطرة على آليات العولمة و الاسواق… ربما ليس هناك في هذا في هذا الكلام خاصة مع بروز مجموعة البريكس
BRICS …
كما ان هناك كلام عن حرب باردة جديدة و شخصيا كتبت سلسلة من خمسة مقالات عن الثورات العربية و حرب باردة جدية في الربع الاول من 2012…. لكن رغم انتقادنا الدائمي و الشديد للغرب اجد انه من الضرورة الموضوعية ان نفترض ان لا روسيا و لا الصين او الهند او غيرها تحمل اي منهجية سياسية او أخلاقية تجاه العالم بل أن هذه البلدان تحاول ازاحة أمريكا و القوى الرأسمالية التقليدية من قيادة التطور الرأسمالي العالمي مستخدمة مناهج لا تختلف في جوهرها عن المناهج التقليدية في استغلال الشعوب الفقيرة و غير القادرة على إدارة ثرواتها… هناك اختلاف في بعض الآليات و أيديولوجيات التأويل و التبشير و الإقناع … لكن المحصلة النهائية لا تختلف كثيرا… لابد ان لا ننسى ان التمدد الرهيب في الصناعات الصينية الرخيصة قضت على اية محاولة تنموية وطنية في اغلب بلدان العالم الثالث… بل ان هذا التهديد يمتد الان الى أوروبا بعد ان امتدت فعلا الى أسواق الولايات المتحدة و كندا و استراليا و نيوزيلندا … و هي بلدان تقع في بؤرة الغرب الصناعي التقليدي…
اود هنا ان أشير الى مثال مهم لإحدى آليات العولمة و هو ان المافيا الروسية قد إزاحت المافيا الإيطالية التقليدية و المافيات الامريكية من السيطرة على أسواق ما يعرف بالتجارة “غير القانونية” في العالم و خاصة في الغرب و هي تجارة الرقيق الأبيض و المخدرات و العمالة الرخيصة و السلاح و غيرها… و اذا عرفنا انه في عالم الرأسمالية فان الخيط الأبيض بين ” القانوني” و ” اللا قانوني” هو غير واضح أبدا مثل الخيط الأبيض بين الليل و النهار في شمال الكرة الأرضية حيث روسيا تمثل أوسع مدى جغرافي فيه… هنا في الشمال فان ليالي الصيف كلها بيضاء لان هناك ضوء رغم غياب الشمس… اما في الشتاء فان النهار يغوص أيضاً في ظلام رغم شروق الشمس لبضع ساعات لان تراكم الغيوم الكثيفة و بعد مدار حركة الكرة الأرضية عن الشمس يشكلان غطاء طبيعيا يمنع وصول الضوء و لذلك فهناك ظلام دائمي و ان كان بدرجات متفاوتة بعض الشيء بين ليل طويل جداً نهار قصير جداً…
رغم وجود الكثير و الكثير جداً من القوانين المحلية و الدولية التي تمنع الاستغلال و تفضيل المصلحة الشخصية و الحزبية الا ان المافيا الإيطالية و الامريكية و المحلية في البلدان الغربية استطاعت دائماً اختراق المناعة القانونية و الوصول الى السياسيين و كبار البيروقراطيين و عقد صفقات على حساب مبادئ الشفافية و المصلحة العامة و الحرية الشخصية للأفراد و الجماعات … هذه المبادئ التي تؤسس مع مبادئ اخرى ارضية النظام الديمقراطي في البلدان الغربية…
لكن الان و مع سيطرة المافيا الروسية فان هناك أهدافا اخرى تتجاوز الأهداف التقليدية في الثراء و جمع الأموال و ممارسة السياسة من خلف الأبواب…ما تقوم به المافيا الروسية الان تقترب كثيرا من عمل تنظيمي لخلق تغير فوضوي في المجتمعات الغربية… او بكلام اخر… تغير البنية الاجتماعية و السياسية الاقتصادية في الدول الغربية… فهناك إغراق واضح لهذه المجتمعات بالرقيق الأبيض و المخدرات و السلع الرخيصة و الأسلحة و سرقة الأموال من البنوك و المحال التجارية و المؤسسات الخاصة و الحكومية في وضح النهار و دون اي خوف من ملاحقة الشرطة… بل تمتد هذه السرقات الى السيارات و الأجهزة الكهربائية و الكومبيوترات و أسلاك الاتصالات المصنوعة من النحاس… و كذلك الدخول الى بيوت كبار السن و هم كثيرون جداً في الغرب و سرقة ممتلكاتهم الشخصية مع إلحاق الأذى الجسدي بهم و اغتصاب النساء رغم ان إعمار بعضهن يقترب من او حتى يتجاور التسعين سنة…
كل هذه العمليات احدثت خللا في عمل الكثير من المؤسسات و خاصة حركة القطارات التي تعتمد على أسلاك النحاس في خطوط توصيلاتها الكهربائية… و احدثت هزة شدية في الثقة بالبنوك و كلفتها مليارات الاموال في محاولة لتحسين كفاءتها و قدرتها على الحفاظ على أموال المودعين… و كذلك احدثت بلبلة اجتماعية و شرخا واضحا في العلاقة بين الشرطة و المواطنين و كذلك هبوطا حادا في مستوى الثقة بالسياسيين لان الكثير منهم مرتبط بشكل او باخر بعمل هذه المافيات…
الان السؤال الهام هو: ماذا يميز المافيا الروسية عن المافيا التقليدية اي الإيطالية و الغربية المحلية منها و الدولية…؟؟.. ما يميز المافيا الروسية …. و هي بالمناسبة ليست روسية فقط و إنما تنتمي الى بعض دول أوربا الشرقية…هو ان هذه المافيا هي بقايا الاستخبارات الروسية كي جي بي
KGB
التي تمتلك كل اسرار الصناعات و الأساليب السرية لاختراق الأنظمة الالكترونية و أنظمة الشرطة و المخابرات و لذلك فإنها تملك قدرات خارقة تعجز أمامها القدرات المحلية لأي من البلدان الأوروبية…
هنا… لابد ان نتذكر ان الرئيس فلاديمير بوتين و كذلك المحيطين هم أيضاً خريجين ذات المدرسة اي
KGB
و يحملون قدرا كبيرا من العصبية القومية الروسية و أهدافا في تغير البنية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية في المجتمعات طريقا لبناء هيمنة روسية بديلة عن الهيمنة الغربية..
الان …. هل ان المافيا الروسية هي جزء من استراتيجية للدولة الروسية و ما علاقة ذلك بالعولمة عموما و بظاهرة داعش خصوصا…؟؟؟… هذه الأسئلة سنناقشها في المقالة التالية…. حبي للجميع…