تشهد الحياة السياسية اللبنانية ظاهرة لافتة. ما عاد السجال السياسي قائًما بين الأحزاب الرئيسية، بقدر ما بات السجال داخل الأحزاب نفسها. الأسباب كثيرة، ومنها ولادة نخبة جديدة شابة في معظم الأحزاب تفتح وعيها السياسي في حقبة ما بعد عام 2005، ونمت واشتد عودها في مناخ سياسي نضالي نيو – ثوري، شهد، بشكل عام، فائًضا في تغليب القيم السياسية والعناوين المثالية على ما اعتاده اللبنانيون من سياسات منذ عام 1992، كل الأحزاب تأثرت بالمناخ السياسي الذي خلقته حركة 14 آذار.
ازدادت غربة الفئة الشبابية المولودة سياسيا من رحم 14 آذار، كلحظة وليس كهوية سياسية، عن السياسات التقليدية اللبنانية، نتيجة انهيار المناخ الذي تكونت فيه. فلئن كانت 14 آذار هي من يقرر عناوين الصراع السياسي في لبنان، وهي من تدفع خصومها إلى رد فعل سياسي على الساحة السجالية التي تختارها، أدى انهيار المشروع السياسي للقوى السيادية اللبنانية، إلى تصحر الحياة السياسية تدريجًيا وتحولها إلى يوميات تسووية مقيتة ومضجرة. وعاد المشروع المضاد، أي مشروع «حزب الله» دائًما وأبًدا، إلى أصوله من دون أن يضطر إلى الدخول في معارك لا تعنيه ولا تنتمي إلى أولوياته أو ثقافته.
الأكثر وضوًحا، فيما يتعلق بانتقال السجال السياسي من خارج الأحزاب إلى داخلها، هو ما يحصل داخل التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون. انشقاقات وعمليات فصل، لناشطين بارزين تصدروا لسنوات واجهة العمل الطلابي والسياسي، وصارت معركتهم اليوم المواجهة شبه اليومية مع «صهر القائد»، والمستعجل وراثته، الوزير جبران باسيل. تحت هذا الصراع الصاخب، آخر صامت يجري بين «الصهرين» باسيل، والقائد السابق لفوج المغاوير العميد المتقاعد شامل روكز، وهو صاحب حضور واحترام كبيرين في وجدان العونيين.
في الضفة الأخرى فإن الانشقاقات التي يعانيها «تيار المستقبل» ليست أقل وضوًحا. هو أيًضا يعاني من انتقال السجال إلى داخله بعد أن قاد صناعة السياسة على مستوى الوطن.
الانشقاق الأعمق داخل «المستقبل» تعبر عنه الحالة التي شكلها اللواء المتقاعد أشرف ريفي، وجسدها في الانتخابات البلدية في طرابلس في وجه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري. الهزات الارتدادية لهذا الانشقاق تتالت داخل التيار، وأطلقت سجالاً حاًدا، وإن أقل صخًبا، حول «الحريرية» وهويتها ومشروعها ومستقبلها.
في مستوى أقل، يجد حزب الكتائب نفسه في موقع من يصارع داخله أكثر مما يصارع خارجه. لحظة وراثة الحزب وانتقال القيادة من الرئيس أمين الجميل إلى نجله النائب سامي الجميل، هي أيًضا معركة خيارات سياسية وعقائدية تتعلق بالنظرة إلى لبنان ودستوره. ظهرت التصدعات في لحظة قرار الحزب الخروج من الحكومة ليكتشف أن بين وزرائه الثلاثة، استقال الوزير غير الحزبي، وتمرد على قرار الاستقالة الوزير الحزبي، وتنصل من الصفة الكتائبية الوزير الثالث في الكتلة!
القوات اللبنانية، الأكثر تماسًكا تحت قيادة الدكتور سمير جعجع، عانت هي الأخرى في معقلها الرئيسي بشري من حالة اعتراضية على الأداء القيادي لزوجته ستريدا جعجع، وإن بقيت أقل صخًبا مما تعانيه الأحزاب الأخرى.
من جهته يشهد الحزب السوري القومي الاجتماعي، أزمة مفتوحة على خلفية انتخابات رئاسة الحزب، بين الشخصية الأقوى فيه الوزير السابق أسعد حردان وأركان في حزبه بينهم الرئيس السابق للحزب جبران عريجي. حاول حردان تعديل قوانين الحزب بما يتيح له الترشح لرئاسة ثالثة متتالية. وحين تم كبحه عبر المحكمة الحزبية، اختار أن يمضي في معركته ويدعم علي قانصو، للرئاسة للمرة الرابعة (غير متتالية). كانت النتيجة حالة اعتراضية لافتة وصفت الرئيس بـ«الدمية» وأزمة تتفاقم!!
وحدها الحالة السياسية الشيعية تبدو الناجية من هذه الظاهرة. لكن التدقيق يشير إلى عكس ذلك. الانشقاق الرئيسي الصامت هو الموقف من الحرب في سوريا. ففيما يقدمها «حزب الله» باعتبارها معركة وجودية للشيعة، ينأى رئيس حركة أمل والمجلس النيابي اللبناني نبيه بري عنها. وفيما يقول الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله إنه قد يذهب هو ورفاقه للقتال في سوريا، يحرص بري على نفي أي تورط ميداني لأمل في سوريا، ونادًرا ما تشيع الحركة مقاتلين لها سقطوا هناك! فإما أن المعركة غير وجودية، وإما أن بري الواقع أن في عمق هذا الانشقاق يكمن إرث السيد موسى الصدر، في مواجهة إرث الخمينية. فقد حرص متقاعس عن خوضها دفاًعا عن الشيعة!
الواقع أن في عمق هذا الانشقاق يكمن إرث السيد موسى الصدر، في مواجهة إرث الخمينية. فقد حرص الصدر إلى حد اتهامه
بالتهاون مع إسرائيل، على أن مصالح الشيعة تكمن في استقرار مناطقهم ونسيجهم وتوثيق علاقاتهم ببقية المذاهب، متبيًنا مرتكزات عقيدة المارونية السياسية لا سيما مفردتي الحوار والتعايش، كخطاب للشيعية السياسية التي قادها.
إن الصورة المتماسكة للطائفة، هي صورة مخادعة. أما تقديمها بصيغة انسياب طبيعي للعلاقات البينية الشيعية فهو تزوير مضاف. الاستقرار الحالي هو نتيجة ميزان القوى الذي أرسته الحرب الأهلية الشيعية الشيعية منتصف وأواخر ثمانينات القرن الماضي. واستقرار يقوم على تزوير المصادر الفكرية والعقائدية لعلاقة الشيعة بلبنان ووضعهم جميًعا تحت رحمة «حزب الله». في شهر أغسطس (آب)، شهر اختفاء السيد موسى الصدر، لا بد من إعادة الاعتبار إلى تجربته، ومسيرته، وقيمه، ومواقفه. كما في كل الأحزاب والتيارات، آن الأوان لأنُتكسر هذه الوحدة الوهمية للطائفة، تحت عنوان الخوف من تجدد الاقتتال الشيعي الشيعي،
وأن يعود الشيعة إلى إرث، ليس مثالًيا بالضرورة، لكنه يعيد وصلهم بلبنانيتهم التي زورها «حزب الله».