هناك تلاقي بين ما جاء في مسرحية صمويل بوكت “في انتظار غودو” وما جاء في رواية نبيل عودة، “غودو” المنتظر لم يعود، لكن “حازم” عاد بدون ميعاد، دون انتظار، عاد هكذا دون أي سبب، لكن عودته أحدثت هزة في صديقه “نبيل” جعلته يفرح ويحلق عاليا بعودته، ثم يفاجأ سلبيا بهذا العائد، فهو جسد بلا روح، هيكل يشبه صديقه القديم ليس أكثر، جسد فارغ من الحيوية والعطاء والحب، كما عهده في السابق.
فكل الانفعال والحماس والاندفاع الذي أحدثته عودة “حازم” تبخرت سريعا، وفقدت بريقها بعد أن تأكد لنبيل التغير الكبير الذي حدث لحازم.
يبدأ الراوي يكشف لنا ما حدث “لحازم” وكيف كانت علاقته بيافا وبأمينة حبيبته، وكيف تم تشتيت الأحبة وتمزيق جغرافيا الوطن، فالإنسان والأرض لم تعد موحدة، كل شيء تغير وتباعد، الإنسان يبتعد عن أخيه وأقرباءه، والجغرافيا سلبت، وتغيرت، ولم تعد كما في السابق.
فكان حضور المكان يؤكد على فلسطينية الرواية، وفي ذات الوقت تأكيد على المأساة الإنسانية والجغرافية التي حدثت لفلسطين، فالراوي ذكر لنا يافا والرملة والناصرة وكفركنا، والبحر، البحر الذي جعله جزءا أساسيا من حدث الرواية، فربط بطريقة رائعة بين الحبيبة والبحر، من خلال وصفه للعلاقة العاطفية التي نشأت بين “حازم وأمينة” حتى أنه يوحد بينهما بحيث يتماهي البحر والحبية معا.
ما يحسب للرواية تناولها للمأساة الفلسطينية دون ذكر لأحداث ومشاهد صعبة، فقدم لنا النكبة بطريقة سلسة دون أن نشعر بأنه أقحمها اقحاما في النص، وهي الشكل في الطرح يعد أمر محمودا، حيث يحمل الابتعاد عن المباشرة في الطرح، ويحترم ذهنية المتلقي.
استخدم الكاتب ثلاث شخصيات تروي الأحداث، نبيل وحازم والراوي/السارد، وقد نجح في اعطاء كل شخصية طريقها في التعبير عن مشاعرها، فبينما كان “نبيل يحمل الصورة العظيمة والقريبة من المقدس للعائد “حازم” كان حازم يحدثنا عن نفسه بصورته الإنسانية التي يتألم ويحمل العذاب والألم لما ألم به بعد فقدان والوطن والحبيبة معا.
يستحضرنا هنا ما قرأناه لنبيل عودة من قصص نشرها على الحوار المتمدن، تتماثل نهايتها مع ما جاء في الرواية، حيث يلغي واقعية الحدث ويجعله حلم أو تخيل ليس أكثر، وهذا الأمر يعد تحسينا لشكل الرواية، حيث يجعل المتلقي يندهش إيجابيا لهذا التحول في واقعية حدث الرواية.
عودة غودو
الدهشة التي تصيب “نبيل” عندما يشاهد “حازم” تكاد توازي الدهشة التي كان من المفترض أن يقابل بها غودو، فوصف لنا نبيل حالته بهذا الشكل: ” حقيقة ظهوره؟! مسألة لم تخطر على البال. أقرب للمعجزات. ما أصعب تصديق رؤيته. فجأة ينجلي أمام عيني . هكذا بلا توقع . كصفعة فجائية تركتني مذهولا عاجزا عن الفهم والادراك…. كان التفكير بلقائه، منذ غادر… نوعا من العبث” – فكأن “حازم” في المشهد السابق عائد من الموت، من هنا وجدنا هذه الدهشة الناتجة عن عدم توقع لهذه العودة، فهي أمر خارق للعادة وتتجاوز العقل.
هذه الدهشة ناتجة عن عودة شخص غير عادي، شخص أشبه بالمقدس الكامل الخالي من العيوب، المعطاء، العارف والمثقف، فيصفه لنا “نيبل” بهذا الشكل” كان يعطينا من اعماقه ، نافذة اوسع لعالمنا ، وشمولية شاسعة للفنون والثقافات ، لا تزال متجلية في نفسي ونفوس بقية الاصحاب” .
” يعشق الادب بحديثه وقديمه ، ويحفظ مقاطع مختارة ونوادر طريفة .. له ذاكرة ممتازة ، وكثيرا ما اعاد على مسامعنا مقاطع لا يزال يحفظها منذ ايام شبابه المبكر . ويحفظ نوادر الادب القديم ويعرف كيف يرويها ، جاليا باسلوبه الفذ ، اجمل معانيها ، فيبهرنا ويفتح اعيننا على كنوز لا حصر لها “.
بهذا الوصف يعلل/يبرر لنا حالة الدهشة والانفعال والحماس التي حدثت له بعد مشاهدة “حازم” فهو شخص استثنائي، قارئ، يجيد الإلقاء، يحفظ الشعر والطرائف وأيضا صديق حميم يعرف كيف يبهج أصدقاءه.
يتقدم “نبيل” من القادم بعد أن وجدته مهملا له، مذكرا إياه بالأيام الخوالي وما فيها من لهو وشباب، لكن “حازم” يكون غير حازم القديم، “ذكرته بأسماء الاصدقاء ، وسألته ان كان يذكر ايامنا الحلوة . حاولت التأكد ان كان يدرك فعلا ما كان بيننا .. فبدت حالي كممتحن لا يعرف اكثر مما يعرفه تلميذه . تذكر الجميع ونسيني وانا الاساس ، فوثب علي حزن عابر وحيرة شاملة ، فصمت التقط انفاسي مزمعا على الخروج والذهاب في طريقي” – بهذا الفعل ينتهي حلم “نبيل” ويتحول إلى واقع جديد، فلا يمكن العودة إلى حياة الماضي بينهما، فالواقع/العصر الجديد غير القديم، وكأن الكاتب بهذا المشهد أراد أن يشير إلى استحالة العودة بالحياة إلى الوراء، رغم ما فيها من بهجة وفرح، من هنا يجب التعامل مع الحياة بواقعية وليس حسب الأحلام. تدفق المشاعر الإنسانية في النص والولوج إلى مكامن النفس وما تحمل من مشاعر وإحساس يعد أحد أهم مزايا الرواية، فقد أستطاع الكاتب أن يدخلنا إلى داخل نفسية هذا النبيل المحبط بعد أن وجد الصد ثم الفتور منه، فيحدثنا عن مشاعره بهذا الشكل :”لاول مرة اشعر بالندم من لقائي به . اخاف ان تتشوه صورته والذكريات التي احملها عنه . ليتني لم القاك .
هل اتجاهلك وامشي ؟!
همي الان ان اتخلص من شرب ما في الكأس لأغادر مهزوما مبهدلا . أشعر بالألم حتى الأعماق .
أقول لنفسي : ” هذا هو الفراق حقا “!!
بهذا الشكل يفقد نبيل “غودو/حازم” فلا يوجد هناك حازم المتعارف عليه، بل شخص آخر، يشبهه شكلا، ويتناقض معه في المضمون والسلوك، وهنا يكون حضور “حازم” قد أحدث تهيجا متناقضا لمشاعر نبيل، ففي البداية أخذه الحنين نحو الماضي الجميل وما فيه، ثم تحول هذا الماضي الجميل إلى وهم، كابوس، لن يكون حقيقة أبدا، فليته لم يعد “حازم/غودو” وبقى في الذاكرة دون أن يتلوث، فحضوره عكر الماء الصافي وجعل النفس في حالة من الهيجان والاضطراب.
آلام “حازم”
هذا المقدس/العائد هو إنسان، وليس كائن فضائي خارق، من هنا يحدثنا عن نفسه بطريقة إنسانية تجعلنا نتعاطف معه، فهو ضحية، فقد وطنه وحبيبته وأشياءه الجميلة، وحمل في نفسه عقدة الذنب اتجاه “أمينة” التي فقدها بعد أن حرقت نفسها، احتجاجا وردا على اجبارها من قبل والدها على الزواج من شخص غير حازم: ” ماتت أمينه يا نبيل. ماتت بعد اسبوعين من لقائنا. قتلها المرض . كذبة كبيرة كانت . كأنها رفضت أن تكون لي بلا يافا . قد تعود لي اذا عادت يافا” … ستتجدد مع عقدة الذنب تلاحق “حازم” وهذا الشعور إنساني يمثل النبل وصحوة الضمير في النفس، فهو شخص محب وهائم في حبه، وهذا ما جعله يصد عن الزواج بغير “أمينة” التي أخلصت له بالحب، وهو تراخي/أهمل في حبها، فريد أن يكفر عن ذنبه بتعذيب/جلد الذات وبقسوة، من هنا يصف لنا عذابه بهذا الشكل: ” أنا مسؤول عما يحدث لك . أنا السبب وأنا المسبب. لو اني ابكرت في القدوم لأنقذتك . سنوات وأنا أتردد .. هذا زمن رديء ووعر المسالك . أين أذهب بهمي وصدمتي ؟!” يحسم لنا “حازم” مسؤوليته عن موتها، وكأنه بهذا الاعتراف يريدنا أن نتفهم موقفه.
يدخلنا حازم إلى ماضيه المفقود، وكأنه يندب ذلك المفقود كما يندب الشيعة الحسين الذي خذلوه في كربلاء: ” أرى أمينة بانطلاقة الامواج وتحررها على الشاطئ . أرى أمينة تسابق الموج نحو الشاطئ بمهارة وتصميم فتحويها .. موجة بحب .. وتدفعها للشاطئ بقوة .. كيف أنسى البحر وأمواجه التي كانت تعانق امينة بأمومة وحب ؟ تغسل مياهه جسدها البض . يرطب شعرها الاسود الطويل . تساعد الشمس على اعطاء جسدها لونه النحاسي الجذاب . البحر أمينة . يافا أمينة . الشوارع أمينة . الذكريات أمينة. الحكايات أمينة . الهواء والشمس والقمر والنجوم .. كلها تحكي لي عن أمينة . فكيف أنسى حبي؟” بعد أن خذل “أمنية” عرف مكانها في نفسه، وأخذ يتحسر على المكان، الجغرافية، الفردوس المفقود، يافا وبحرها، الحبيبة، المرأة ما تحمل من مكانة عند الرجل، فهي الماء الذي يروى الظامئ، هي الهواء والغذاء، هي الحياة.
بهذا التوحد بين المرأة، الحبيبة والوطن استطاع الكاتب أن يقنعنا بأهميتهما لنا، فكلاهما مهم وضروي لنا.
الصور الفنية “مشهد يوضح طبيعة الحالة التي سمر بها نبيل
يستخدم الكاتب العديد من المشاهد الجميلة في النص، فهو يتقن الرسم والتصوير الفني، فبعد أن أصابه الاحباط يصف لنا مشاعره بهذا الوصف: ” كأني بمركب بلا شراع ولا دفة، يتأرجح مع الامواج ، يعلو وينخفض بعنف .. وتدفعه الامواج بلا اتجاه .. ينشد من عليه النجاة ، لكن لا قبطان يضبط سيره ، ولا يابسة تلوح مبشرة بأمل الوصول للبر ، ولا حمامة مع غصن زيتون” مشهد يوضح طبيعة الحالة التي سمر بها نبيل، بشكل فني رائع.
قبل الانتهاء من الرواية نود الإشارة إلى امكانية أن تكون الرواية تحمل شيئا من الرمزية، من خلال حديثها عن الغائب العائد “حازم” الذي فقد بريقه وهالته بعد أن وجدناه على أرض الواقع.
الرواية منشورة على الحوار المتمدن على الرابط :