ملحمة عمر أبو ريشة، كتبها عقب هزيمة ١٩٦٧ وقرأتها بوجوده عام ١٩٧٠. وجدتها مؤخراً على النت وقد أضيفت إليها بضع أبيات لا أظنه كاتبها وإن كانت صالحة في السياق. عدت إلى النص الأصلي الذي أعرفه وينقصه بيتان يعاتب فيهما الشام بقسوة ولم أجدهما. هذا النص لم ينشر رسمياً لأسباب سياسية، ولكنه تسرب الى بعض الشعراء وظهرت منه أجزاء في ديوانه الأخير.
كان الشاعر يعتبر هذه الملحمة من أعظم ما كتب !
إن كُنتُم من هواة الشعر فاقرؤها لعلكم تستمتعوا. ربما كان ميالاً لإعتبارها دُرَّة الشعر الكلاسيكي المعاصر.
عودة المغترب
عمر أبو ريشة
/ الشاعر يعود الى بلاده ويصف انهيار القِيَم التي عاش من أجلها فيها /
——————————–
ألفيتُ منزلَها بوجهي موصدا
ما كان أقربه إليَّ و أبعدا
كلَّت يداي على الرتاج، و عربدتْ
في سمعِيَ المشدوهِ قهقهة الصدى
ما كنتُ أحسبُ أن أطوفَ به على
غصص النوى و أعودَ عنه مُجهدا
فكم اختزلتُ حدودَ دنيانا على
أعتابه و كم اختصرتُ به المدى
ما بالها تصغي؟ – و أحلف إِنها
تصغي – و تأبى أن تردَّ على النّدا؟
أَخَبَتْ نجومي في مدار لحاظها؟
فتساوت الدنيا لديها مورِدا ؟
ليست بأول بدعة أوجدتُها
و أضعتُها عبر الضلالة و الهدى
و حملتها ذكرى و لم أُرْخِصْ لها
عهداً ، أَأَشقى عهدُها أم أسعدا؟
الذكرياتُ .. قِطافُ ما غرستْ يدي
كَفِلَ الحنينُ بقاءَها و تعهَّدا
هي كل زادي هوَّنَتْ صعبَ السُّرى
و رمتْ على قدميّ غطرسةَ الردى
كم نعمةٍ شمخَتْ عليَّ فهِجتُها
و شربْتُ نزفَ جراحها مُسْتَبْرِدا
وكم استخفَّ بيَ الهوى فصلبتُه
و ركعتُ تحت صليبه متعبدا
و تقاتلتْ فيَّ الظنونُ و طابَ لي
في حالتيها أن أُذَمَّ و أُحمَدا
جئتُ الحياةَ فما رأتنيَ زاهداً
في خوض غمرتها .. و لا مترددا
إني فرضتُ على الليالي ملعبي
و أبيتُ أن أمشي عليه مُقيَّدا
————-
يا غربتي .. كم ليلةٍ قطّعتُها
نِضْوَالهموم على يديك مُسَهَّدا
أطمعتِني في كل حلم مترف
و ضربتِ لي في كل أفق موعِدا
فوقفتُ أقتبلُ الرياحَ و ما درتْ
من كان منا العاصفَ المتمردا
و مضيتُ .. أنتعلُ الغمام و ربما
أشفقتُ خدَّ النجم أن يتجعدا
وأطَلْتُ في التّيه المُشتِّ تنقلي
و حملتُ ما أبلاه فيَّ و جدَّدا
ورجعت أستسقي السراب لسروة
نسيتْ لياليها حكايات الندى
فكأنما المجد الذي خلدتُه
لم يكفني فأردتُ مجداً أخلدا
ما أكرم الوتر الذي أسْكَتُّهُ
لأجُرَّ أنفاسي عليه تنهُّدا
كم سَلْسَلَت فيه الشموخَ أنامل
و رمتْ به سمعَ الزمان فردَّدا
خلع الفتونَ على الشجون وصانها
من أن تهون ترجُّعاً و توجُّدا
أهفو إليه و ما يزال غبارُه
متجمعاً في صدره مُتلبدا
أفديه بالباقي من السلوى إذا
أرجعتُه ذاك اليتيمَ المفردا
يا غربتي أشجاكِ طولُ تلفُّتي
صوب الديار تهالكاً و تجلدا
أتَعِبْتِ من نظري إليكِ معاتباً؟
و مَلَلْتِ من صخبي عليكِ مندِّدا؟
ذاك التجنِّي لم تطيقي حمله
مني، و لم تتوقعي أن ينفدا
أطلقتِني .. و تبعتِني .. و أريتِني
ملءَ الدروب خيالكِ المتوددا
أنا عند ظنكِ سادر في موطني
أزجي خطايَ على ثراهُ مشرَّدا
و أغضُّ من طرفي حياءً كلما
عدَّدْتُ أعراسي عليه، و عدَّدَا
أيامَ تستبق الرجالُ نداءه
و أشقُّ موكبَهم فتيَّاً أمردا
و بناتُ كلِّ عجيبةٍ، مجلوةٌ
رصداً على هضباته متوعدا
كم علَّمَتْنِي أن تدوسَ جباهَهَا
قدمي، وكم علمتها أن تحقدا
لعبتْ ببرد صبايَ بين جراحه
فالتفَّ حول ثخينِهِنَّ، و ضمَّدا
تأبى البنوَّةُ أن أقول وهبتُه
و تركت كل هبات غيري حُسَّدا
أَأَمُرُّ منه و صاحبايَ كهولتي
و العنفوانُ، و لا يمدُّ لنا يدا ؟
أنا ما شكوت على اللقاء صدودَه
عني، متى صدَّ الكريمُ تعمُّدا ؟
تلك الذوائبُ من لِدَاتي دونه رمحٌ
تكسَّرَ أو حسامٌ أُغمدا
————-
أخذتْ بناصيتيه أيدي عصبةٍ
كانت على سود الليالي هجَّدا
جاز الزمانُ بها حدود مجونه فأقام منها كلَّ عبدٍ سيِّدا
تشقى العلى إن قيلَ كانت جندَها ما كان للجبناءِ أن تتجندا
نظرتْ إلى شرف الجهاد فراعَها فسعتْ إلى تعهيره، فاستشهدا
من كلِّ منْفضِّ السبيلِ، لقيطِهِ شاءت به الأحقادُ أن تتجسّدا
عقد الجفونَ بذيل كل سماوةٍ و أراد ملعبَها كسيحاً ُمقْعَدا
العاجزُ المقهورُ أقتَلُ حيلةً و أذلُّ منطلَقاً، و أنذلُ مقصِدا
نثر الخسيس من السلاح أمامه و اختار منه أخسَّه، و تقلَّدا
و حبا إلى حرم الرجال، و لم يذُقْ من قُدسِ خمرتهم و لكنْ عربدا
و افتَنَّ في تزييف ما هتفوا به و ارتدَّ بالقِيَمِ الغوالي مُنْشدا
البغيُ … أروع ما يكون مُظَفَّراً
إن سَلَّ باسم المكرُمات مهنَّدا
لا يخدعنَّكَ دمعُه و انظر إلى ما سال فوق أكفه، و تجمَّدا
لا تشربِ الحُمَّى دماءَ صريعِها إلا …. و تكسو وجنتيه تورُّدا
و أزاحت الأيام عنه نِقابَه فأطلَّ مِسْخاً بالضلال مزوِّدا
ترك الحصون إلى العدى متعثراً بفراره، وأتى الحِمَى مُسْتأسدا
سكِّينه في شدقه و لعابُه يجري على ذكر الفريسة مُزبدا
ما كان هولاكو، و لا أشباهه بأضلَّ أفئدةً و أقسى أكبُدا
سرواتُ دنيا الفتح هانتْ عنده و أصاب منها ما أقام و أقعدا
ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى فتناثرت رِمماً، و أجَّتْ موقدا
كم سُجدٍ لله فاجأهم، و ما كانوا لغير الله يوماً سُجّدا
عرَفَتْهمُ الجُلَّى أَهِلَّةَ غارة و غزاةََ ميدانٍ، و سادةَ منتدى
يا شامُ .. ما كذب العِيانُ، و ربما شهق الخيالُ أمامه، و ترددا
أرأيتِ كيف اغتيل جيشُك و انطوت بالغدر رايةُ كل أروعَ أصْيَدا؟
و انفضَّ موكب كل نسر لو رأى لِعُلاكِ ورداً في النجوم لأوردا
————-
من للبقايا من تراث غاضب في القدسِ؟ من يسعى إليها مُنجدا؟
درجتْ عليها الغاشياتُ و لم تدع فيها بناءً للشموس مشيّدا
روَّتْ بأقداح المسيح غليلها و رمت بها، و هوت تُذرِّي المزودا
لمن الخيام على العراء تزاحمت و كست مناكبَه وِشاحاً أسودا ؟
مرت بها غُبْرُ السنين و لم تزل نصباً على جرح الكرامة شُهَّدا
شابتْ بنات اليتم في أحضانها و رجاؤهنَّ كشملهن تبددا
و من الخليج إلى المحيط عمومةٌ و خؤولة طابت و عزَّتْ مَحْتِدا
وقفت تشد على الجراح و كِبرُها يرنو إلى الشرف الذبيح مصفَّدا
و الحاكمون .. الثأر راح مفرِّقاً ما بينهم، و العار جاء موحِّدا
كم ملعب للتضحيات تواعدوا أن يقطعوه شائكاً و مُعبَّدا
حتى إذا الخطب استحَرَّ تواكلوا و تهالكوا فوق الأرائك أعبُدا
و تأنقوا في ستر ذلِّ خنوعهم فجلَوْهُ نهجاً بالدَّهاء مؤيدا
أنا لم أكن يا شام أعرف فيهمُ الـ ندْبَ العيوفَ و لا النجيد المسعدا
ترفُ الحياةِ .. ذليلهُ و رخيصُهُ نادى على حرماتهم أن تُورَدا
و نزا على أحلامهم فتهوَّدت وسرى إلى سلطانهم، فتهودا
—————
يا شام .. أوجعُ من وجومك زفرةٌ داريتُها، و أردتُها أن تخمدا
زخرتْ بما ادّخرت منايَ إلى غدٍ إني أخاف أرى مصارعها غدا
لا يا عروس الدهر سفرُكِ ما روت صفحاتُهُ إلا العلى و السؤددا
كم دون هيكلك الموشَّى بالسنى من طامعٍ أُردي و طاغٍ أُلحدا
جمدتْ عيونُ الشرق من سهرٍ على ميعادِ وثبتكِ الجموحِ على العِدا.