عودة الانسان الاول والخلق في العقيدة الزرادشتية

zardashtعودة الانسان الاول والخلق في العقيدة الزرادشتية
بقلم: عضيد جواد الخميسي
تصف لنا الميثولوجيا الزرادشتية ملك او اله النور ,, أهرمزدا,, ذلك المحارب الشجاع ورأته بشكل رئيسي في ضوء المنتصر على قوى الظلام بسبب جلده وجرأته ، ومع ذلك استلزم وجوده ، وجود سمة اخرى له وهي سمة المعاناة لان مخلص الانسان الاول لم يحقق انتصاره الا بعد هزيمة ظاهرية فقط عندما شرع بالقتال مع قوى الظلام الشريرة وهو عالم المادة ، وبفقدانه قوته في درعه المتمثلة بعناصره النورانية او مايسمى ,,ابناؤه الخمسة,, وهي الريح والتراب والضوء والماء والنار، ناد اله النور ـــ الاله الاسمى ـــ لطلب معونته ، استدعى صديق النور الذي استدعى ,,البناء العظيم,, والذي استدعى بدوره ,,الروح الحية,, مع ابنائها الخمسة .
مدت الروح الحية ، التي كانت بصحبة ام الحياة يدها اليمنى للانسان الاول حيث امسك بها ، وتم انتشاله من اعماق عالم الظلام ، وارتفع عاليا وعاليا مع ام الحياة والروح الحية ، وحلق مثل النور المنتصر المنبثق من الظلام حتى تمت اعادته الى جنة النعيم مسكنه السماوي حيث كان ينتظره انسباؤه .
وهنا نجد حوار خاص دار بين زرادشت والانسان الاول القديم ,, أهرمزدا,, حيث يقول زرادشت :
ثم صرخت الروح الحية بصوت عال
وكان صوت الروح الحية كالسيف الحاد
وقد كشف عن شكل الانسان الاول
وقال مخاطبا اياه:
السلام عليك ايها الممتاز بين الاشرار
ياايها اللامع وسط الظلام
رب قائم وسط وحوش الغضب
لايعرف شيئا عن عظمتك
واجابه الانسان الاول بعد ذلك مباشرة وقال:
تعال مع السلام ، واحضر،
اسباب الطمأنينة والسلام
ونتيجة لقهر قوى الظلام لذرات النور ، فقد نشأت حالة من الامتزاج مع الظلام بعد القتال ، وهذا مصطلح من المصطلحات الايرانية القديمة ، وكلمة ,, قوميجشن ,, تعني الامتزاج في النصوص الزرادشتية المكتوبة باللغة الايرانية الوسيطة ، وهي تعني حالة من الحالات عندما يتداخل فيها الخير والشر بعضهما في بعض ، وان مفهوم المزج بين النور والظلام ، وبين الفضاء المفهوم والمادة تشكل ايضا جزءا من التراث الايراني القدبم .

وصل الان سير التقدم الكوني الى المرحلة التي عندها انقاذ الانسان الاول ،وكانت عناصر النور ما تزال في مخاضات الظلام ،وبالتالي فقد استمرت ,,نفسه وروحه,, مكبلتين ومشوهتين ، وقد تطلبتا ان يتم تحريرهما واعادتهما الى عالم النور ، ونفذت الروح الحية هذه المهمة ، وقد دعيت هذه الروح في التعاليم الايرانية باسم ,,مهريزد ,, واحيانا ,,الاله مثرا,, وقد اعطته بعض المصادر الاغريقية اسم ,,خالق الكون المادي ,, وهي تسمية موائمة تماما بالنظر الى حقيقة انه كان ــــ بالتعبير الدقيق ــــ ,,خالق الكون المرئي,, لانه عاقب عناصر الظلام ، وسلخ جلودهم وصنع السماء منها ، بينما صنع الجبال من عظامهم والارض من برازهم .
وتشكل الكون من عشر سماوات وثمانية افلاك ، ورفع واحد من ابناء الروح الحية السموات عالية ، وكان اسمه ,,حامل التألق,, وهو,, صافط زيوا,, في السريانية و,, سيبليندتينس,, في اللاتينية ، وقام ابن اخر بتثبيت الافلاك الثمانية على كتفه وهو ,,سكالا,,او,,اتلاس,,او ,, اطلس,, في اللاتينية .
وبدات الروح الحية مهمة التحرير الثانية بعد تحرير ,, اهرمزد ,, ، حيث طهرت العناصر النورانية او ذرات النورالتي كانت بحوزة ابناء النور، والتي لم تكن قد تلوثت ،وصنعت الشمس والقمر منها ،او فلكي النور كما دعيا عادة ، وحولت الذرات التي كانت قد تلوثت بشكل جزئي الى نجوم . وبسبب ان الكواكب كانت قاسية فقد كانت خمسة ابام من الاسبوع قاسية ،ولم يكن لطيفا من بينها سوى يومي الاحد والاثنين .
وبقيت هناك تلك الذرات التي كانت قد عانت المزيد من مواجهتها مع الظلام ، واستلزم امر اعادتها وجود اجراء معقد ، وشرع اله العظمة او الاله الاسمى بخلق فيض جديد كانت اهم شخصياته الرسول الثالث ، واسمه ,, ازقادا,,بالسريانية وتعني الرسول و,, تيرتوس ليكوتوس,, باللاتينية ، وكان الرسول الثالث أباً للعذارى الاثنتي عشرة للنور واللواتي احتللن امكنتهن على انهن الاثنتا عشرة علامة لمنازل دائرة البروج .
ويسمى الرسول الثالث باسم ,, ناريسف يزدا ,, في الفرثية ،وفي النصوص المكتوبة باللغة الايرانية الوسيطة ، بينما يسمى باسم ,, ناريسه يزد ,, في الفارسية الوسيطة ، وذلك في الاشكال الغربية الابرانية الوسيطة الاصلية ,, لبستاه ناريسه,, التي يرد ذكرها في الكتب البهلوية على انها ,, نير يوسانغ ,, .

وتم اختراع العجلة الكونية الضخمة جدا كانها كوكب ، تشبه ناعور الماء ، وحددت ذرات نور للشمس والقمر ، وبزغت ذرات النور المتقدة كعمود من نور يعرف باسم عامود المجد ، وذلك في النصف الاول من الشهر ، واتجه نحو القمر الذي اصبح بدرا بعدما امتلأ وتضخم بذرات النور ، وتم ترشيد ذرات النور خلال النصف الثاني من الشهر من القمر الى الشمس ، ومن هناك الى جنة النور .
هذه الافكار بالحقيقة هي افكار هندية ــــ ايرانبة قديمة جدا متعلقة بتطهير الروح الانسانية بوساطة هذا الصعود الى الكواكب القمرية والشمسية ،كما ان فكرة عمود النور الممتد من الارض الى السماء والمؤلف من ذرات متصاعدة من النور ، هي مجرد فكرة قديمة عن طريق المجرة,, درب التبانة,, المتشكل من ارواح الموتى المتصاعدة باستمرار نحو سماء النجوم الثابتة ، وقد سيطر هذا التفسير الميثولوجي على العقائد في العصور القديمة بشكل عام .

اسطورة اغواء الاراكنة(الحكام)
كان مايسمى باسطورة اغواء الاراكنة عنصرا اسطوريا اخر، وتتحدث هذه الاسطورة ، كيف ابحر الرسول الثالث قي مركبه الضوئي ـــ اي القمر ـــ عبر قبة السماء، واظهر نفسه للقوى الظلامية المقيِدة ، حيث اظهر للاراكنة الذكور جمال انوثته المتالق على شكل ,, عذراء النور,, (في الايرانية الوسيطة ـــ كانيغراشن ـــ ) وتجلى الى الاراكنة الاناث في هيئة شاب عار متالق ، ولهذا يُعرض هذا الاله على شكل خنثى . وحقق نشاط الرسول الهدف المطلوب ، فقد قذف الاراكنة الذكور بذرات النور على شكل نطف سقطت على الارض ، حيث سمح التراب للنباتات ان تنبعث عند ذلك مع نتيجة ان هذه النباتات استمرت لتحتوي على نسبة كبيرة من الضوء (وهذه نقطة ينبغي ملاحظتها) .
واما عناصر الظلام الانثوية ، والتي كانت حاملة من قبل فقد ولدت قبل حلول الاوان ، وذلك عندما رأت جمال الرسول ، وبما ان تم قذف الاشرار الى الارض ، فانها قد التهمت براعم الاشجار ، ومن ثم تمثلت ذرات الضوء التي كانت موجودة في ذلك المكان . ومنها خلق الانسان الجديد ليحمل الخير والشر في داخله .

وخلاصة الامر هي ان الفكرة تستهدف ان تقول ، ان ذرات النور التي كانت ماتزال موجودة في المادة قد تم توزيعها الى بعض الحدود بين عالم الخَضار، وبين قوى الظلام الى حد ما ايضا .

الاله في الميثولوجيا الزرادشتية اله بعيد وغريب ، يقطن في مملكة النور بعيدا جدا عن الكون وهو لم يخلق الكون ، ولا يعبأ به ابدا ، وذلك ان التورط مع العالم الصغير يمكن ان ينقص من كماله ، اما الكون فقد اوجد وحُكم من قبل ارباب ادنى .
ودفعت ضرورة المواءمة بين اله الخير القادر وبين اله الشر الى قيام سلسلة واسعة من الميثولوجيا الذكية التي سردت فيها تفاصيل اخبار الخليقة ، لتتبنى مباديء تقول بالتعادل بين النور والظلام ، وهي بذلك من الممكن القول انها عدت العالم شرا دون الاساءة المسبقة الى خير النور .
وتشبه الارض في الميثولوجيا الزرادشتية النقطة الداخلية القصوى لسجن واسع ، وهناك شبه كبير بينها وبين العالم السفلي لدى الاغريق ، والارض محاطة بالعادة بعدد من الاكوان تدور حول المحور نفسه ، عددها سبعة .
مع ان بعض المفكرين الايرانيين يرفعون عددها الى اكثر من ذلك ، وحكم كل كون من الاكوان ,, أركون,, شرير من بين سبعة أراكنة اشرار( ربط اسم كل منها بكوكب من الكواكب السبعة ) وتنتظم شؤون الاركون الثامن ـــ وهو ابعدها ـــ بالنجوم الثابتة ، وحدد استبداد الاراكنة القدر، او قانون الطبيعة .
وكما ان الارض مجاطة بسبعة اراكنة ، كذلك روح الانسان مغلفة بسبعة اغلفة وهي الطباع او الميول التي تشكل النفس ، والنفس مثلها مثل الجسد هي من مخلوقات الاراكنة الذين اضفوا عليها طبيعتهم الشريرة ، والروح فقط التي هي الشعاع المقدس تحتوي على عناصر نورانية اساسية وهي لذلك نقية ، ففي الفوضى الواسعة التي تقدمت على خلق العالم وقع جزء من الاشعة النورانية في شراك العالم المادي ، وقد جرى تكوين جسد الانسان خصيصا ليمسك بهذه الاشعاعات ويمنعها من النجاة .
وهكذا نجد ان قوام الخلاص هو تحرير الروح من سجنها الجسدي ، فبذلك يمكنها ان تصعد الى ,,أهرمزد,, وقد سبب لها تعايشها الطويل مع الجسد نسيان اصلها السامي وطبيعته الحقة ، وبعبارة اخرى سبب لها الجهل , وبناء عليه فالجهل هو معادل للذنب ، والخلاص من الجهل هو المعرفة التي تقود للخلاص الذي لايتوصل اليه الانسان بدون عون لنيل هذه المعرفة الُمخلِّصة، وهو يحتاج الى مخلص يريه الحقيقة ، ويقود روحه خارج سجنها المظلم، ويصل الُمخلِّص ، الذي هو مخلوق غير مباشر للإله ، متنكرا في جسد ارضي من اجل خديعة الاراكنة ، وبقوم بايقاظ شعاع النور المكبل من نومه ، ويعلمه كلمات المرور السرية التي هي ضرورية للتفوق على الاراكنة ، وجعل العبور للروح ممكنا من خلال الاكوان السبعة ، وهو اي الُمخلِّص ، الذي يقود الطريق ، وفي نهابة الحياة الدنيا سوف تتجمع اجزاء النور المفقودة فوق ، في مملكة النور.
وتنطلق مُثل الزرادشتية ومقاصدها من هذا التصور الكوني على اساس ان الجسد ورغباته هما شر لانهما يمنعان الروح من الخلاص ، وبناء عليه تشجع الزرادشتية اللامبالاة تجاه الجسد ، ويمارس المتعبدون من بعض الزرادشتيين صنوفا متشددة من اشكال الزهد والرهبانية .

ان نظرة الى عالم الاسطورة الواقع وراء اغواء الاراكنة ستساعد على فهم هذا الموضوع قبل التعمق في دراسة نظام زرادشت العقائدي …

مواضيع ضات صلة : نزول الانسان الأول القديم في العقيدة الزرادشتية

المصادر
ـــــــــــــــــ

ماري يويس و فرانس غرينيت ــــ الزرادشتيون ومعتقداتهم الدينية ـــ المجلدان الاول والثاني ـــ لندن ــ 1979.
روني خان ـــ الزرادشتية التقليدية ـــ لندن ــ 1995.
برايتون ــــ الزرادشتية مقدمة الى الايمان القديم ــ نيويورك ــ 1998.
كيلين ـــ الأفستا ـــ نيويورك ـــ 1972 .
ميلتون ـ جي ـ غوردن ــ موسوعة الاديان في امريكا ــ ديترويت ــ 1996.
محمد دنداميف ـــ التاريخ السياسي للإمبراطورية الأخمينية ــ 1989.
وليم مالندرا ــ الزرادشتية ــ استعراض تاريخي ـــ نيويورك ـــ2005 .
احسان يارشاتر ــ زرادشت ــ طهران ـــ 1975.
روبرت زهنير ــ معضلة الزرادشتية ــ اكسفورد ــ1955.

About عضيد جواد الخميسي

كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.