إيلي عبدو : الحياة
الأربعاء ٢٧ مارس ٢٠١٣
ليس بالأمر البسيط أن يعقد مثقفون يساريون وشيوعيون سابقون في مدينة القاهرة مؤتمراً يُمثل المعارضة العلوية في سورية بهدف النأي بالطائفة عن نظام الأسد. إنها من دون شك نهاية مرحلة وولوج أخرى. فهؤلاء، قارعوا في الثمانينات الأسد الأب باسم اليسار وعادوا بعد عقدين من الزمن ليقارعوا ابنه باسم الطائفة.
لقد سقطت الإيديولوجيات الزائفة التي طمست الصراعات الأهلية في البلاد وبات السوريون في مواجهة قاسية مع ذواتهم الطائفية، يعيدون تكوينها على وقع التهديد الوجودي. علويو القاهرة بدوا حائرين، مرتبكين في أداء دورهم الجديد، قالوا نحن لسنا معارضين علويين بل شخصيات وطنية من أصول علوية. ولتخفيف حدة الارتباك دعوا إلى مؤتمرهم شخصيات مسيحية وسنية معارضة.
كل ذلك طبيعي بالنسبة لمثقفين ومعارضين سياسيين انغمست لغتهم في قواميس العروبة واليسار والصراع الطبقي، وجاءت الثورة لتصدّع وعيهم السياسي المؤدلج وتُدخل إليه مفردات ومفاهيم جديدة. إنه تمرين أول للتعرّف على الواقع السوري بكل نواقصه التي لا ترضى النظرة الأيديولوجية التسليم بها. ولعلَّ الخرق الثاني الذي تم إحداثه في البنية الذهنية للمؤتمرين هو اعترافهم بوجود علاقة طالما تم إنكارها بين النظام والطائفة. لقد أكد المعارضون العلويون أن النظام يخطف طائفتهم ويوظفها بغرض الاستمرار في السلطة.
لأول مرة يتمُّ الحديث عن صلة ما بين عائلة الأسد والطائفة العلوية وذلك من قبل العلويين أنفسهم. لقد استثمر الأسد الأب علاقته بطائفته خلال صراعه مع الإخوان المسلمين، لا سيما في الجيش والأمن، وكذلك فعل ابنه خلال الانتفاضة الأخيرة. مع ذلك بقيت المعادلة التي تحكم هذه المسألة في كلا الزمنين شعاراتية تؤكـــد وجود طائفتين متصارعتين هما «النظام» و»المعارضة». ولتدعيم هذه المقولة ذهب العــديد من التحليلات ليؤكد وجود موالين سُنّة فـــي صفوف الشبيحة مقابل الكثير من نخـــب العلويين في صفوف المعارضة، مع نفـي أي بعد طائفي للصراع الدائر في سورية.
الكلام عن علاقة بين النظام والطائفة أياً كانت طبيعة هذه العلاقة يعني أن اللحظة الحالية هي لحظة التصالح مع الهوية الطائفية، بكل ما تختزنه من مخاطر وتحديات. المعارضون العلويون لم يكتشفوا فقط علويتهم، بل أيضاً المأزق الذي وصلت إليه بسبب علاقتها الشائكة بنظام الأسد.
والحال أن الذين أخذوا على المؤتمر تأخر انعقاده لم يدركوا السماكة الإيديولوجية التي تغطي لغة المثقفين والمعارضين العلويين، ولم ينتبهوا أيضاً إلى أن تسرّب لغة جديدة تعمل على تذويب هذه السماكة لا يمكن أن يحدث خلال وقت قصير، وتحديداً في سورية، البلد الذي تتخذ فيه المفاهيم دلالات معاكسة لجوهرها بفعل التحكم الاستبدادي.
لقد ظهر داخل المعارضة مكون علوي ولو بتعابير مواربة وخجولة، يبحث عن السبل التي تكفل فك النظام عن الطائفة، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم. إلا أن الحديث عن التأخر في عقد المؤتمر يأتي في سياق آخر يرتبط بحجم التأثير الذي سيحدثه داخل صفوف الجماعة الأهلية العلوية. لقد جاء هذا المؤتمر بعد سنتين من اندلاع الثورة، أي بعد تحولها إلى العسكرة والأسلمة وصولاً إلى الجهاد.
وخطاب المؤتمرين في القاهرة يصلح للأيام الأولى من الانتفاضة، أما الآن فإنه يتقاطع، من موقع التناقض والاختلاف، مع لغة النظام. الأول يشجع العلويين على الانخراط في ثورة رأس حربتها العسكرية جبهة النصرة التي تكفرهم وتهدر دماءهم.
والثاني يدفعهم للموت من أجله، للحفاظ على إرث عائلي مافيوي فاسد. في الحالتين، العلويون مدعوون إلى موت محتّم يضج بالشعارات المتضاربة.
لا ريب أن المؤتمر نجح في رصّ صفوف النخبة العلوية وجمع شملها، لكنه لم يستطيع أن يصدّع الطائفة بوصفها كتلة متراصة تدافع عن نفسها عبر النظام. بقيت الجماعة الأهلية تُحصي قتلاها الذين يسقطون يومياً في مناطق متفرقة من البلاد وتنتظر كل صباح عناصر الأمن يقتحمون القرى لاصطحاب الفتية والشبان ليعودوا إلى أحضان أمهاتهم جثثاً هامدة.
صحيح أنه باتت لدينا معارضة علوية مُعلنة تحضّ الطائفة على الانخراط في الثورة مقابل نظام يدعوها للانتحار معه، لكن الصحيح أيضاً أن الطائفة كمكون سوسيولوجي تمــــضي يومياتهـــا علـــى وقع الخطــــر وتبحث عمّن يمثلها و يقدّم لها ضمــــانات البقاء. لا يكفي أن يقول المجتمعون في القاهرة إن الطائفة في خطر مقترحين حلولاً زجلية لتجاوز ذلك، من نوع أن الشعب السوري يحمي بعضه بعضاً. فلا بد من اجتـــراح رؤى جريئة لا تتجاوز الإيديولوجيات السابقة فحسب وإنما تفتح الجدل على أفكار سياسية كانت بحكم المحرمة في الماضي.
لقد أنهى المثقفون العلويون بيانهم الختامي بعبارة «أن أية محاولة لتقسيم سورية من أطراف داخلية أو خارجية، تعتبر خيانة للوطن وللتاريخ وللأجيال»، مقفلين بذلك النقاش على طرح صيغ سياسية مستقبلية يمكن أن تريح الأقليات في سورية ومـــن بينهم العلويون. وعلى الأرجح فإن وضع خــيار التقسيم في سياق الخيانة هو ممارسة تنتمـــي إلى الآلية الأيديولوجية السابقة التي اعتاد عليها هؤلاء المؤتمرون الذين تداركوا التصدع الذي حصل في بنيتهم الذهنية بسرعة مذهلة وعادوا إلى مقارباتهم القديمة.
المرحلة الراهنة تحتاج إلى عقول تمتلك خيالاً سياسياً رحباً، لا تنظر إلى التقسيم على أنه «خيانة»، إذ قد يكون صيغة سياسية توافقية تكفل للجماعات الأهلية والطائفية حقوقها وخصوصياتها، ولو كان الخيار السوري الطوباوي المُرتجى من جميع السوريين هو الوحدة الوطنية والجغرافية. لكن الذكاء يقتضي في هذه اللحظة أن لا نستبعد خيار التقسيم بالسياسة طالما أنه مطروح بالسلاح والدم.
* كاتب سوري.