لا تلبث أن تهدأ موجة نقد «اليسار» بسبب موقفه من الثورة السوريّة حتّى ترتفع مجدّداً. وأغلب الظنّ أنّ ما يحرّك الموجة هذه ليس وزن اليسار وحجمه، بل المفاجأة بأنّ «أهل الثورة» بات بعضهم يقف في مواجهة الثورة، وبعضهم في موقف التحفّظ عنها، تاركين لهامش ضيّق منهم أن يؤيّدها.
والمستجدّ هذا يجد أحد جذوره في تحوّل معنى الثورة نفسها. فقد فوجئ العقل الذي انتظر خطاباً طبقيّاً صافياً لا تخالطه إلاّ دعوة قوميّة مشبوبة لمحاربة الصهيونيّة والاستعمار، بأنّ الثورة، الراهنة والممكنة، إنّما تركّز على الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، وتنظر إليهما بوصفهما الشرط المسبق والمنطلق الضروريّ للتعامل مع القيم الأخرى، سلباً كان التعامل أو إيجاباً.
وهذا ما تساوق مع تحوّل كبير تجسّده استعادة السياسة إلى الأوطان والدواخل الوطنيّة، بعد نفيها في الأدغال الجيوبوليتيكيّة العابرة للحدود.
وتحوّل كهذا يمسّ ما راح يستقرّ عليه معنى «اليسار» في زمن الحرب الباردة، حيث غدت الأولويّة المطلقة للصراع «مع الإمبرياليّة»، البريطانيّة – الفرنسيّة أوّلاً، ثمّ الأميركيّة بالمعنى الحصريّ.
مثل هذا التغليب للخارجيّ – الجيوبوليتيكيّ، المحكوم بالهوى السوفياتيّ، على الداخليّ – الثقافيّ والمجتمعيّ، يرقى في أصوله إلى اللحظة التي انتصرت فيها ثورة أكتوبر الروسيّة عام 1917. ذلك أنّ الانتصار ذاك بقدر ما كان هزيمة للقيصريّة فإنّه كان أيضاً هزيمة للماركسيّة الأرثوذكسيّة التي عبّر عنها رموز كبرنشتاين، ومن بعده كاوتسكي والمناشفة الروس. وحين اندفع لينين فأطلق تسميتي آسيا «المتقدّمة» وأوروبا «المتأخّرة»، لمجرّد أنّ الأولى تشهد ثورات لم تعد رائجة في الثانية، فإنّه كان يضع «الحركة» محلّ الانتاج والاقتصاد اللذين اعتمدتهما الماركسيّة الأصليّة معياراً لحسبة التقدّم والتأخّر.
و»الحركة» تلك ما لبثت في زمن الحرب الباردة أن اكتسبت معنى وحيداً محدّداً، هو الوقوف في صفّ موسكو ومصالحها ضدّ الغرب. فحينما انهار الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته، في موازاة نموّ هائل لشعبويّة عالمثالثيّة، دينيّة غالباً، ابتلعت تلك الشعبويّة معظم ما تبقّى من يسار يغالب مرارته بسقوط «قلعة التقدّم والاشتراكيّة».
وبدورها شكّلت الثورة السوريّة امتحاناً هو الأكبر لذاك المجمّع من الخرافات التي استقرّ عليها معنى اليسار. فهي تولّت، ببلاغة نادرة، هدم الأولويّة المعطاة للخارجيّ والجيوبوليتيكيّ، التي استخدمها الطغاة والمستبدّون تحت يافطات شتّى في رأسها «الممانعة». وهي، فوق هذا، طرحت، من خلال مطالب الحرّيّة والكرامة الانسانيّة، المسائل الملحّة التي تشرط كلّ «تنوير»، حتّى لو تعرّجت وتعثّرت السبل إليه. فإذا استحالت تلبية المطالب تلك، غدت كلّ دعوة «أعلى»، اشتراكيّة أو غير اشتراكيّة، دجلاً محضاً. وليس صدفة في هذا المعنى أنّ جميع الأنظمة التي قالت بالاشتراكيّة اللينينيّة إنّما زاوجتها مع العسف العسكريّ وإهانة الكرامة الإنسانيّة، مسيئة إلى الاشتراكيّة من خلال الإساءة إلى الحرّيّة.
هنا كان يتّضح، ولو على نحو مداور، كم أنّ الموقف اليساريّ من الثورة السوريّة يخفي الانقطاع عن التنوير الغربيّ الذي بدأ مع الثورة البلشفيّة، بعدما كانت ماركسيّة كارل ماركس من بنات هذا التنوير.
وفي العموم، لا يتأدّى عن هذه المواقف سوى مزيد من اللامعنى السياسيّ قياساً بما ينتجه الواقع من قوى فعليّة. وهذا ما كنّا قد رأيناه في موقف يساريّين سبق أن قالوا «لا لصدّام ولا للأميركيّين»، و «لا لكرزاي ولا لطالبان»…، في انتظار أن تنشقّ السماء عن هدية تستحقّ أن يقال لها: نعم.
*نقلاً عن “الحياة” اللندنية