علي الأمين *
– 28 آب 2018 ( العرب ) –
يمكن ملاحظة أنّ قوى الممانعة لم تعد تكتفي بالاعتداد بالقوة الروسية العسكرية في مواجهة خصوم الرئيس بشار الأسد، فمنذ بدأت روسيا بالتدخل العسكري الجوي في الأزمة السورية مع استعراضها بشكل حيّ لكل أنواع سلاحها التدميري في سوريا، واكب عمليات التدمير هذه تقديم المدائح من قبل قوى الممانعة وجمهورها للقوة الروسية وإطلاق ألقاب من قبيل تسمية أبوعلي بوتين على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومحاولة تقديم روسيا باعتبارها قاهرة الإمبريالية الأميركية، والحليف في مواجهة الأطماع الإسرائيلية والغربية للمنطقة العربية، وإلى غير ذلك من التحليلات والشعارات التي تضفي على روسيا بعدا تحرريّا من السطوة الأميركية على المنطقة ولا سيما في سوريا.
كان هذا قبل مرحلة تنفيذ العمليات العسكرية الأخيرة في الجنوب السوري والتي أفضت إلى سيطرة النظام على الحدود مع الجولان المحتل، والتزام إيران بإبعاد ميليشياتها عن هذه الحدود مسافة تزيد على الثمانين كيلومتر.
لم تحدث الإجراءات الروسية، لا سيما تلك المتصلة بضمان أمن إسرائيل، أيّ صدمة فلا قرار إبعاد إيران عن حدود الجولان، ولا التنسيق الروسي-الإسرائيلي الذي تعزز وترسخ من دون أن يهزه أيّ خطاب عن طرق القدس التي جرى ويجري شقّها في سوريا بحسب تعبير أمين عام حزب الله.
الذي استجد اليوم أنّ قوى الممانعة ومنابرها الإعلامية على وجه العموم تروّج لانتصارها في سوريا، وتثني على دور روسيا في تحقيقه في مواجهة المشروع الصهيوني والأميركي التكفيري والإرهابي، باعتبار أنّ التكفير والإرهاب هما صناعة أميركية وإسرائيلية.
ما كشفته وقائع الجنوب السوري أخيرا، أنّ الأمن الإسرائيلي هو الأولوية التي يجب أن لا تمس، لكن ما يثير “الحيرة” هو أنّ وجدان قوى الممانعة لم ينفعل حيال وقوف روسيا حائلا أمام شق “طريق القدس” التي باسمها تمّ تبرير تدمير سوريا، لا بل لم نعد نسمع باسم فيلق القدس ولا قائده في ما يتصل بموقفه حيال الاتفاقات الإسرائيلية الروسية حول ضمانات أمن إسرائيل وحدودها.
بالتأكيد ليست إيران ولا ميليشياتها في وارد المس بأمن إسرائيل كما يقول خصومها، ولكن ما يلمسه المتابع لخطاب انتصار قوى الممانعة، كما تردد هي نفسها في سوريا، أنّه يتقاطع إن لم يكن متطابقا مع المكاسب الإسرائيلية.
إسرائيل نجحت في تحقيق وتثبيت جملة مكاسب بفضل القوى التي ادعت أنّها تقاتلها في سوريا. أولها، تثبيت الأمن على حدودها وفرض انكفاء إيراني عنها، تثبيت أنّ الأمن الإسرائيلي هو الحقيقة التي يعترف بها الجميع والتي كشفت الوقائع أنّ الحدود مع إسرائيل كانت مستقرة، فيما كانت كل المناطق السورية مشتعلة خلال السنوات السبع الماضية.
ثانيا، ضمان إسرائيل الموقف الروسي والأميركي إلى جانبها لجهة شروطها الأمنية، وهذا ما كان ليتحقق لولا التعاون الروسي الإسرائيلي في سوريا ولولا الدخول الدموي الإيراني إلى بلاد الشام، الذي كان يدرك أنّ الجمع بين عداء الشعب السوري والمس بأمن إسرائيل غير ممكن، وبالتالي كانت إيران ملتزمة أكثر مما يجب تجاه مصالح إسرائيل ومنخرطة بشكل غير مبرر في ضرب إرادة السوريين المنتفضة على استبداد النظام في سوريا.
ثالثا، “الممانعة” بمختلف أفرعها ومنابرها وهي تنتصر في سوريا، حققت لإسرائيل أهم الاتفاقيات الضامنة لمصالحها سواء بالاتفاق في الجنوب السوري واتفاق حماس وإسرائيل في غزة، وإنجاز نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس.
وفي هذا السياق يقابل هذه الإنجازات الإسرائيلية مع تهميش دور السلطة الفلسطينية، التغني بالانتصارات التي حققها محور المقاومة.
الانتصار وصل إلى حد أنّ حماسة الجماعات الإيرانية وميليشياتها المقاتلة، تتركز على خوض المواجهات ليس مع الجنود الإسرائيليين في لبنان وسوريا، ولا على الجنود الأميركيين في العراق وفي سوريا، بل يستبسلون من أجل القتال ودعم الجماعات التي توفر المزيد من تدمير المجتمعات العربية ودولها، وها هو أمين عام حزب الله مستعد أن يلتقي ويدعم بشكل مباشر الحوثيين في اليمن لكنه يتفادى القيام بأي خطوة عملية يشتمّ منها أنّه يدعم مجموعات داخل فلسطين المحتلة من أجل تحريرها، بل العكس تماما هو شديد الانضباط حيال عدم تعكير مزاج المسؤولين، الإسرائيليين.
رابعا وأخيرا، اللعبة التي يرغبها ويريدها الإسرائيليون وبات حزب الله كرمز للممانعة يحسن إتقانها، هي التهويل ولعبة التقارير الإعلامية المتبادلة التي تتضمن خططا وهمية عن حرب قادمة بين الطرفين، إسرائيل تريدها لابتزاز الغرب في سبيل دعمها ومراعاة أطماعها، وحزب الله يتوسلها ويبتهج بها من أجل استخدام هذه التقارير لتبرير كل مشاريعه التي تتركز في التحكم والسيطرة على السلطة في لبنان من جهة، وتنفيذ ما تطلبه إيران في سوريا وغيرها من الدول العربية باسم العداء لإسرائيل من جهة ثانية.
التهافت في خطاب الممانعة وصل إلى اعتبار أنّ أهم ما أنجزه التدخل الروسي بعد الحفاظ على نظام الأسد في سوريا، هو في قدرة موسكو على كسب ثقة تل أبيب على حساب واشنطن، وأن هذا الإنجاز الذي يفترض أن يكون إدانة وفضيحة للدور الروسي في سوريا بناء على مبادئ الممانعة وأدبياتها، ها هو يتحوّل إلى انتصار لمحور المقاومة والممانعة.
رغم أنّ الكارثة السورية المستمرة كبيرة وغالية على السوريين أولا والعرب ثانيا، لكن يسجل لهذه الكارثة أنّها كشفت وفضحت هشاشة الأيديولوجيا الإيرانية وخطابها المستعرب تجاه إسرائيل، بل فضحت كيف أنّ مصالح الدول الإقليمية وعلى رأسها إيران في المحصلة النهائية لا يضيرها تدمير محيطها العربي بسلاح الدفاع عن قضاياه، والحصيلة أن موسكو وإسرائيل وواشنطن هي المنتصرة الفعلية في المشرق العربي، فيما قوى الممانعة التي تنتشي ببقاء الأسد، فإن انتصارها هو في الحقيقة انتصار على الشعوب وعلى النظام الإقليمي العربي وانتصار الخواء الأيديولوجي الذي لا يقوم إلاّ على دمار المجتمع والدولة.
بهذا المعنى فإن الإنجاز الأهم الذي يمكن أن يشكّل مدخلا لاستعادة الوعي والحضور والفاعلية في بلداننا العربية، وبالتالي إعادة ترميم وتفعيل النظام الإقليمي العربي، هو المزيد من انكشاف الخطاب الأيديولوجي الذي رفع شعارات تحرير الشعوب وتحرير القدس ومواجهة الاستكبار والغرب، الذي ينكشف اليوم أكثر فأكثر بأنه نموذج للاستبداد وأكثر قابلية لعقد الصفقات مع إسرائيل، والأكثر احتفاء بالسيطرة الخارجية على حساب المصالح الوطنية والعربية، والأكثر استثمارا للجهل في سبيل تأييد التخلف والتبعية.
الممانعة مصنع الأيديولوجيات الفارغة، التي تحسن وتتقن عبرها فعل التدمير الذي تحتفي به اليوم كنصر مؤزر.
*كاتب لبناني.