تفضل الأستاذ عمرو موسى، رئيس اللجنة المكلفة بوضع الدستور، فاتصل بى هاتفياً يدعونى لحضور اجتماعات اللجنة والمشاركة فى أعمالها بعد أن علم أن لى تحفظات على تشكيلها آثرت معها أن أكتفى بالكتابة حول الدستور والتعبير عما أراه فيه، كما أفعل الآن وكما فعلت من قبل دون حاجة للمشاركة فى أعمال اللجنة التى قيل لى إن الذين أشرفوا على تشكيلها جعلونى فيها عضواً احتياطياً؟!
وكان الكاتب الكبير صلاح منتصر قد اتصل بى من قبل يطلب منى ما طلبه الأستاذ عمرو موسى. وكذلك فعل الأستاذ محمد سلماوى، رئيس اتحاد الكتاب والمتحدث الإعلامى باسم اللجنة. وقد شكرت للأساتذة الثلاثة حسن ظنهم ووعدتهم بالمشاركة فى أعمال اللجنة التى نتمنى لها النجاح فى أداء عملها مهما تكن العقبات التى تقف فى طريقها.
وكنت فى مقالتىّ السابقتين قد لاحظت أن اللجنة روعى فى تشكيلها تمثيل الهيئات والأحزاب والنقابات والمجالس أكثر مما روعى التوافق المطلوب لتمثيل المصريين كأمة، وكثورة، والتعامل مع الدستور لا باعتباره مواد متفرقة يراد تعديلها بل باعتباره وثيقة سياسية وبناء فكرياً منطقياً يؤدى بعضه إلى بعض.
وفى الوقت الذى اتسع فيه المجال لكثير من الهيئات والفئات والتنظيمات السياسية والنقابية ضاقت المساحة المخصصة لتمثيل المسيحيين وأساتذة القانون والمرأة المصرية ورجال الفكر والأدب. ولكى تتضح لنا الصورة نقارن بين مكان هؤلاء فى اللجان التى وضعت الدساتير المصرية السابقة ومكانهم فى اللجنة المكلفة بوضع الدستور الجديد.
اللجنة التى وضعت دستور ١٩٢٣ كانت مؤلفة من ثلاثين عضواً منهم ستة مسيحيين ويهودى، أى أنهم كانوا يشكلون ربع أعضاء اللجنة فى الوقت الذى كان فيه عدد المصريين لا يزيد على خمسة عشر مليوناً. أما فى اللجنة الحالية التى بلغ عدد أعضائها خمسين عضواً، فالمسيحيون لا يزيد عددهم على أربعة منهم ثلاثة يمثلون الكنائس المسيحية الثلاث، كأن المسيحيين المصريين لا وجود لهم فى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.
فإذا نظرنا إلى لجنة الخمسين التى وضعت دستور ١٩٥٤ فسوف نجد أن نصف أعضائها على الأقل كانوا من رجال القانون والأدب والفكر، وفى مقدمتهم أحمد لطفى السيد، وعبدالرزاق السنهورى، وطه حسين، وعبدالرحمن الرافعى، ومحمود عزمى، وفكرى أباظة، وعبدالرحمن بدوى.
ونعود لننظر فى لجنتنا الحالية فلا نجد مراد وهبة، ولا جورج إسحق، ولا نجيب ساويرس، ولا نبيل صموئيل، ولا نجد إبراهيم درويش، ولا تهانى الجبالى، ولا نور فرحات، ولا أسامة الغزالى حرب، ولا علاء الأسوانى، ولا مكرم محمد أحمد، ولا عبدالمنعم سعيد، ولا رجائى عطية، ولا يوسف الشارونى، ولا فاروق شوشة، ولا حسن طلب، ولا بهاء طاهر، ولا صلاح فضل، ولا مأمون فندى.
ونحن نخطئ خطأ بالغاً حين نهمل فى اللجنة التى شكلناها لوضع الدستور الجديد شرط التوافق وشرط وجود المثقفين، نخطئ خطأ بالغاً حين نستهين بهذين الشرطين ونظن أن الجماعة الوطنية يمكن أن تمثل بأفراد ترشحهم الفئات المختلفة دون أن تكون لهم ثقافة جامعة تساعدهم على أن يتفاهموا ويتفقوا.
وأنا لا أعترض على تكليف الهيئات والفئات بترشيح من يمثلونها فى اللجنة، لكن التشكيل كان يكتمل بعدد من الأسماء التى تختارها الرئاسة لتزود اللجنة بالكفاءات التى تحتاج إليها وتحقق التوازن بين من يمثلون الفئات والنقابات والأحزاب من ناحية ومن يمثلون الأمة كلها من ناحية أخرى، خاصة فى هذه الأيام التى تسعى فيها جماعات الإسلام السياسى لتمزيق وحدة المصريين.
ونحن نرى كيف يميز الإخوان وحلفاؤهم بين المسلمين والمسيحيين، وكيف يختصرون التاريخ المصرى فى الفتح العربى الإسلامى، وكيف يستبعدون ما سبق هذا التاريخ وما لحقه. فالحضارة المصرية القديمة غير محسوبة عند هؤلاء إلا حين يشتمون الفراعنة. والنهضة المصرية الحديثة غير محسوبة أيضاً. وهذا ما كان يجب أن نتنبه له ونحن نشكل اللجنة لنضمن دستوراً يعلى من شأن الانتماء الوطنى ويؤكد أسباب الوحدة بين المصريين. لكن الذين شكلوا اللجنة لم يولوا هذه المسألة ما كانت تستحق من اهتمام، وكانوا بالعكس أكثر اهتماماً بالجماعات التى دخلت اللجنة لتدافع عن الدستور الإخوانى وتهدد بإعلان الحرب وإثارة الفوضى إذا اقترب أعضاء اللجنة مما يسمونه مواد الهوية فى هذا الدستور الملفق.
أية هوية؟! يقولون العروبة والإسلام. ونقول لكن مصر لا تختصر فى العروبة والإسلام. فقد عاشت ثلاثة آلاف عام فى ظل الفراعنة الأمجاد. وعاشت ألف عام فى المسيحية وعندما دخلها العرب المسلمون عاشوا إلى جانب المصريين المسيحيين. وإذا كان المسلمون قد أصبحوا أغلبية فى مصر، فقد خرجت هذه الأغلبية من صلب الأقلية، لأن المسلمين المصريين هم أحفاد المسيحيين الذين أسلموا.
والذين يتحدثون عن العروبة والإسلام لا يسألون أنفسهم عما يقصدونه بعروبة مصر وإسلامها.
نعم. مصر عربية. لكن عروبة مصر عروبة لغة وثقافة وليست عروبة دماء وأعراق. والثقافة العربية حين دخلت مصر تمصرت. وإلا فالفرق هائل بين شعر شوقى ونثر طه حسين ومسرح الحكيم وروايات نجيب محفوظ وأزجال بيرم التونسى وبين شعر امرئ القيس ونثر ابن المقفع.
وكذلك نقول عن الإسلام الذى أعطى وأخذ فى كل قطر دخله. فإسلام المعتزلة يختلف عن إسلام الحنابلة. وإسلام هؤلاء يختلف عن إسلام المتصوفة. ومصر إذن عربية إسلامية، لكنها فى الوقت ذاته فرعونية مسيحية، لأن التاريخ لا يموت. وثقافة الأجداد ممتدة فى ثقافة الأحفاد. وبهذا نتوحد ونتضامن. حين نظل أوفياء لتاريخنا كله بعصوره كلها. فإن نسبنا بلادنا لتاريخ واحد من تواريخها أو لمكون واحد من مكونات شخصيتها قسمناها ومزقناها وأسقطناها ودمرنا حضارتها وجعلناها ساحة للفتنة والفوضى.
وفى ضوء هذه الحقائق ننظر فى مواد الدستور ونناقش ما يسمونه مواد الهوية.
تقول المادة الأولى إن الشعب المصرى جزء من الأمتين العربية والإسلامية. وهى عبارة كل ما فيها خطأ. فالشعب المصرى ليس جزءاً وإنما هو كل متحد متحقق. وربما كانت الأمة المصرية أقدم أمة حية على وجه الأرض. والعرب ليسوا أمة واحدة، بل هم أمم شتى، لأن الأمم لا تقوم بالدين وحده أو بالدين واللغة وإلا كان الإنجليز والأمريكيون والكنديون والأستراليون وغيرهم من الشعوب، التى تدين بالمسيحية وتتكلم الإنجليزية أمة واحدة. وإنما تقوم الأمم قبل كل شىء بالمصلحة المشتركة والتاريخ المشترك، وبهما يتجمع البشر ويتحدون ولو تعددت دياناتهم. السويسريون يتكلمون ثلاث لغات وبعضهم بروتستانت، وبعضهم كاثوليك، وبعضهم لا دين له. وهم مع هذا أمة واحدة بالمصلحة والتاريخ وبالديمقراطية التى تحفظ لكل مواطن حقوقه أياً كانت لغته وديانته. وبغير الديمقراطية وبغير إبعاد السياسة عن الدين تتفتت حتى الكيانات الصغيرة، كما حدث فى السودان، وكما يمكن أن يحدث – لا قدر الله!- فى سوريا، وفى العراق، وفى لبنان!.
وإذ لم يكن العرب أمة واحدة رغم الدين الواحد والثقافة المشتركة، فالمسلمون من باب أولى ليسوا أمة واحدة. وكيف يكون البوسنيون، والسنغاليون، والإندونيسيون.. إلى آخره أمة واحدة؟ لا. ليسوا أمة واحدة إلا من باب المجاز. إذا استخدمنا كلمة الأمة، بمعناها اللغوى لا بمعناها السياسى. والفرق بينهما جوهرى. الأمة فى الله هى الجماعة ولو كانت هذه الجماعة عشرين شخصاً فى الشارع أو كانت جنساً من الحيوان. أما فى السياسة فالأمة جماعة من البشر. ترتبط فيما بينها بالمصلحة والتاريخ واللغة والثقافة، والأرض والدولة.
لكن جماعات الإسلام السياسى لا تعرف اللغة، ولا تعرف السياسة، ولا تعرف التاريخ. ولهذا ترفع علم القاعدة وتنكس علم مصر، وتعلن «دلجا» إمارة إخوانية مستقلة، وتجعل مصر جزءاً من أمم لا توجد إلا فى المجاز. وتبنى على نصوص لا معنى لها. وتخلط الدين بالسياسة فى أكثر من خمس عشرة مادة من مواد الدستور الذى أصدرته فى العام الماضى. وتجعل الأزهر رقيباً على البرلمان. وتحصن سلطتها بالشريعة لتبقى فيها إلى الأبد. لكننا أسقطنا هذه السلطة هى ورئيسها ودستورها المزيف!
نقلاً عن صحيفة “المصري اليوم”