من أراد أن يتفهم أسباب الداعين إلي إسقاط كل الروابط بين الدين والعلم، فإن البغال تحفظ في شكلها ذكري خطأ التعصب لكل ما ورد في تراث الأجداد واعتبار مجرد الاقتراب منه بمثابة تمزيق متعمد للجلد حول الهيكل..
كان العرب قديمًا يقولون في موطن الحديث عن أمر مستحيل الحدوث: عندما تلد البغال، وعندما يشيب الغراب، ومع مجئ الإسلام، تنامي يقين بأن قيام الساعة مرتبطٌ بأحداث غريبة من بينها ولادة البغلة!
وعلي الرغم من أن رهاناته أكثر تعقيدًا من رهانات الأدب الشعبي، أكد العلم أيضًا استحالة حدوث هذا، ذلك لأن البغال نتاج لتلقيح ذكر الحمار لأنثي الحصان، وهذا يعني أن عدد الكروموسومات في خلاياها لابد أن يكون مختلفاً عن عددها في خلايا كلا الأبوين، وبالتالي، فرص نجاح عملية الإنقسام الإختزالي منعدمة تمامًا..
لتكبير الصورة:
من المعروف أن عدد كروموسومات الإنسان 46، نصفها موجود في البويضة، والنصف الآخر في الحيوان المنوي، ومتي اندمجت البويضة والحيوان المنوى صار العدد 46 كروموسوم؛ وهو عدد ثابت فى أى خلية جسدية، وبما أن عدد كروموسومات الحصان هو 64، وعدد كروموسومات الحمار هو 62، فإن عدد كروموسومات البغل هو مجموع نصف عدد الكروموسومات في الأبوين، أي 63 كروموسوم ، وهو عدد فردي من شأنه أن يجعل البويضة غير قابلة للإخصاب، ويجعل الخلايا غير تناسلية إنما جسدية فقط!
غير أن أسباب عوام المسلمين لعقم البغال مختلفة، الشيعة علي وجه الخصوص، ولأنه ما من حقوق مؤلفين في كتابة الأدب الأسطوري، سأتناسي أن ولادة بغلة لم تكن في الجاهلية أيضًا حدثاً مألوفاً، وسأسمح لنفسي بالحديث مثلهم:
لقد دعت فاطمة الزهراء رضي الله عنها علي البغال بالعقم لأن بغلة فضحتها أمام أبيها، ذلك لأنها، رضي الله عنها، ذات نهار من نهارات شهر رمضان، كانت تركبها وهي برفقة أبيها صلى الله عليه وسلم، وفجأة، حرنت البغلة وبدأت بالرفس والركل حين أحست بحيض فاطمة، فطلب النبي منها النزول وأكل قليلاً من الرمل!
وستمر عشرات الأجيال من رواة القصص، وسينجحون في تمرير هذه الخرافة بأمانة حتي تنهار تمامًا..
الأمر الجدير بالاهتمام في هذه المواجهة هو أني لا أعرف مؤرخاً تعرض للإهانة والتشوية والرجم بالكذب أكثر من القاضي ابن الصيرفي، لأنه ذكر في حوادث سنة 785 في كتابه “إنباء الهصر بأبناء العصر” في الباب الثاني : أحوال الشارع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى:
– وحدث في هذه الأيام أمور تؤذن باقتراب الساعة، منها أن السيد الشريف الوفائي، نائب قاضي الحنفية، أخبرنى بحضوره أن الأمير تمر المحمودى، حاجب الحجاب، شاهد عنده بغلة ولدت وعاش الولد أيامًا ومات بعد ذلك!
كما ذكر ابن حزم الأندلسي مثل ذلك أيضًا في كتابه “التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية”:
– وقد أخبرني مخبر في مجلس بعض الرؤساء أنه شاهد بغلة ولدت في بلد وشهد له صحة ذلك قوم كانوا في تلك الناحية!
لم يكن يدور ببال أحد أن براءة الرجلين من تهمة الكذب ستأتي من بلادٍ لم تكن معروفة في زمانهما، فلقد حدث في الولايات المتحدة الأمريكية أن ولدت إناث البغال عدة مرات:
في عام 1920 في تكساس ولدت بغلة بغلاً حيًا كان أبوه حمارًا, ثم ولدت نفس البغلة مرة أخري عام 1923 مهرًا صغيرًا كان أبوه حصاناً، وفي عام 1939 في إنديانا ولدت بغلة مهرًا بعدما لقحها حصان, ولكن هذا المهر كان أبعد ما يكون في الشبه عن البغل أو الحمار، وفي نفس العام، ولدت بغلة في أريزونا بغلاً التقطت له الكثير من الصور عند ولادته..
وفي المغرب أيضًا، قبل عامين، فوجئ فلاح يقيم بإقليم الحوز بالقرب من مراكش يدعي حسن أيت الطالب بولادة بغلته، عندما انتشر الخبر، اندلع الذعر بين سكان منطقة أوكايمدن تحسبًا من قيام الساعة، وقبل أن تشتعل حماسة بعض العلماء لدراسة أسباب هذه الظاهرة نفق الصغير!
ولم تمر علي هذه الحادثة شهور حتي تكررت بالتفاصيل نفسها في ولاية كولورداو الأمريكية أيضًا، ونفق المهر الصغير أيضًا بعد أيامٍ من ولادته، لكن، لحسن الحظ، أصبح لدي العالم الآن سجل من الصور والأفلام يجعل من التشكيك في إمكانية ولادة البغال حماقة كبري..
فما الذي حدث؟
لقد شكلت الخلايا الجسدية بالصدفة بويضة قابلة للإخصاب, وانفصلت كروموسومات الحصان عن كروموسومات الحمار خلال عملية الانقسام بطريقة منتظمة، وبالتالي، أصبح حمل البغلة ممكناً!
محمد رفعت الدومي