مونيكا بريتو وبريوديسمو اومانو
حوران (الحدود الأردنية- السورية)- بعد عبور الثغرة المفتوحة لهذا الغرض في الحاجز الرملي الذي يفصل سوريا عن الأردن، تنظر المرأة -أربعون عاماً، تجاعيد كالأخاديد وعيون شاخصة- حواليها بالارتباك نفسه الذي ينظر فيه رفاق مأساتها، وهم أكثر من مائتي لاجىء خرجوا بشكل غير شرعي من البلاد بصحبتها. تتلمس داخل حقيبتها إلى أن تعثر على زجاجة ماء تدنيها من أولادها، أربعة صبية بين الخامسة والعاشرة من أعمارهم، وتفرغها برقة في أفواههم بينما تبدأ بالبكاء.
في البداية كان بكاءً صامتاً لم يمنعها من مواصلة الاعتناء بأطفالها، لكن سرعان ما تحول إلى نحيب طويل ومعدٍ، في صرخة مكبوتة من الكرب وعدم اليقين. دموعها هي نوع من الوداع لما كان، حتى اللحظة، حياتها قبل أن ترى نفسها تتحول إلى لاجئة. دموعها هي التحقق من أن ثمن النجاة بالنفس هو التخلي عن كل ما يرمز إلى الحياة الطبيعية. ابنتها الكبرى تبدأ في البكاء فاتحة أعينها بشدة، كما يفعل ذلك النسوة – أم وأربع بنات- يجلسن بجانبهن، على حجارة متجمدة.
هذه المجموعة من اللاجئين، صف لا نهاية له من المدنيين، غالبيتهم نساء وأطفال، تم إيصالهم إلى الحدود في حافلات صغيرة يقودها أعضاء من الجيش السوري الحر، وقد هربوا لتوهم عبر واحدة من 45 نقطة حدودية غير شرعية حيث اعتادت قوات المملكة الهاشمية على مساعدة المدنيين الذين يهربون من البلد في حالة الحرب. يتعلق الأمر بمنطقة وعرة من الأرض التي تفصل بين سوريا والأردن-يتقاسم البلدان 378 كيلومتراً من الحدود- المراقبة، مثل بقية الحدود، من قبل القوات الأردنية، التي تسارع إلى تنظيم عملية النقل والمساعدة اللازمة لكل السوريين الهاربين.
على الحدود مع محافظة درعا، حيث الرسوم الجدارية لأطفال عذبهم النظام بسبب جرأتهم أطلقت الثورة التي آلت إلى حرب أهلية، تتواصل عملية نقل اللاجئين: في أقل من ساعة واحدة، وفقط عبر نقطة الحدود التي فرت منها النسوة اللاتي كن يبكين، ما لا يقل عن مائتين وخمسين شخصاً.
شقيقتان، مصحوبتان بعشرة من الأطفال، توضحان أنهم قادمون من صيدا، في محافظة درعا. “كل قريتنا تم إخلاؤها. طلب منا الجيش السوري الحر أن نغادر لأنهم يتوقعون هجوماً كبيراً”، تشرح إحداهن. قالتا إن عمليات القصف اشتدت في الأيام الأخيرة، وإنها المرة الأولى التي يتركون فيها القرية خالية تماماً. “قبل بضعة شهور، بمواجهة هجوم آخر، حملونا إلى طيبة، قرية أخرى مجاورة. الآن، طيبة أيضاً تم إخلاؤها”.
اللاجئون يأتون من مناطق مختلفة من درعا كالمذكورتين سابقاً طيبة وصيدا: تل شهاب، الحراك، بصرى؛ ومن درعا ذاتها عاصمة المحافظة. إحدى النساء، وجهها مغطى وتحمل رضيعاً بين ذراعيها، تؤكد أنها قادمة من حِمص. “احتجتُ يومين للوصول إلى هنا”،تقول هامسةً. لاجئة أخرى، محاطة بأطفال، ترفض الإجابة على الأسئلة لكنها تطلب أن نستمع إليها. “لا أحد يساعدنا، أين هو العالم، ماذا يتنظرون ليفعلوا شيئاً؟ لا نستطيع إلا الثقة بأن الله سيخلصنا من الأسـد”. بعض الأطفال الأكبر سناً يبتسمون ويتدافعون بأكواعهم بوجود الصحفيين، لكن الغالبية منهم خائفون. الجميع يشتركون في الارتجاف من الخوف ومن البرد: درجات الحرارة تنخفض إلى حد كبير عند الحدود الأردنية واللاجئون فروا بما عليهم من ثياب: في حالات كثيرة بالبيجامات الرياضية أو العادية والصنادل.
في هذه المعابر الحدودية غير الشرعية، ينظم حوالي ثمانمائة وخمسون عسكرياُ أردنياً دخول المدنيين السوريين، يوزعون الأغطية، والماء، وبعض الطعام. يفعلون ذلك على متن 450 عربة، كثير منها مصفحة لأنها الوحيدة القادرة على فتح الطريق عبر الثلوج التي تغطي الجبل خلال الشتاء. “مهمتنا هي تسهيل دخول اللاجئين، حماية أرواحهم وتوجيههم إلى المخيمات”، يشرح العميد حسين راشد الزيود، قائد حرس الحدود الأردني، لكنه يشدد على أنهم، بالوسائل التي تتوفر لديهم، لا يستطيعون مواجهة السيل البشري الذي يقترب منهم.
في الأيام الخمسين الأخيرة، استقبل الأردن تسعة وثمانين ألف لاجىء، الأمر الذي يترتب عليه تصاعد دراماتيكي في عدد الأشخاص الباحثين عن ملاذ: منذ انطلاقة الثورة، قبل حوالي عامين، سجلت المملكة الهاشمية مائتين وخمسة وسبعين ألف مدني سوري، بالرغم من أن العدد الاجمالي يُقدَّر بما يقرُب من ثلاثمائة وخمسين ألفا. إلى ما قبل شهرين، كان عدد الداخلين يتراوح بين ستمائة وثمانمائة شخص يومياً، لكن، منذ الأول من كانون الثاني|يناير، صار المعدل ثلاثة آلاف شخص يومياً ما يشير إلى تصاعد واضح في قمع نظام دمشق رداً على تقدم الثوار الواضح. يقدر أنه، في شهر تموز| يوليو القادم، سيكون الأردن قد استقبل ثلاثمائة ألف شخص آخرين. إجمالا، تقدر الأمم المتحدة وجود 725000 لاجىء، وأربعة ملايين نازح داخلي في سوريا.
حسب العميد الزيود، يأتي معظم اللاجئين من درعا- المجاورة للأردن- لكن بلاده تستقبل أيضاً لاجئين من السويداء الجنوبية، وحِمص، وحتى من دير الزور. “بعضهم يتوجب عليهم أن يقطعوا حتى ثمانين كيلومتراً في عرض الصحراء للوصول إلى هنا”،. يقر الزيود بأن قواته تنخرط في عمليات إطلاق نار مع الجنود السوريين الذين يطلقون النارعلى صفوف اللاجئين. “هذا يحدث يومياً” يقول، جازماً، بالرغم من رفضه إعطاء أرقام حول المصابين في صفوف جنوده. “نحن ندافع عن أراضينا وعن ضيوفنا” يقول مؤكداً.
استراتيجية الجيش الأرني تتضمن تجميع الهاربين في نقاط استقبال، تتكون من مقصورات مسبقة الصنع- واحدة تقوم بدور مركز التسجيل، وأخرى هي عيادة طبية، والعديد منها مجهزة بحمامات- وخيام كبيرة مجهزة بمعدات التدفئة الأساسية وسجاد على الأرض، قبل نقلهم إلى مخيم الزعتري للاجئين. منذ عبورهم للحدود حتى وصولهم للزعتري قد يمضون “ما بين ساعتين وأربع وعشرين، حسب الأوضاع المناخية” وفق ما يقوله العميد الزيود. في كل مرة يهطل فيها الثلج، تتحول الطرق الوعرة التي تربط سوريا والأردن إلى مغامرة بالنسبة للاجئين، وكثيرون منهم مزارعون يمشون بالصنادل، بدون جوارب، وبما لا يزيد عن ثياب تمكنوا من ارتداءها قبل مغادرة بيوتهم. يجرُّون حقائب كبيرة وحتى جراراُ من الزيتون، والبيض المطبوخ المحفوظ في الزيت والخضار المحفوظة . صار الطعام والثياب المقتنيات الأغلى قيمة.
يميل أحد الضباط قليلاُ على كتف العميد الزيود، الذي ينظر نحو الأرض. “يخطرونني بوصول مجموعة أخرى من اللاجئين”، يعلن العميد بصوت مرتفع. حل الليل، ودرجة الحرارة تنخفض إلى الصفر. على بعد أربعين كيلومتراً من النقطة الأولى للعبور، في الظلام الأكثر حلكة، يمكن تمييز خيالات بشرية لا نهاية لها تتحرك ببطء. ما يبدو في البداية أنه عشرات من الأشكال الغريبة سرعان ما يتحول إلى مئات من الأشخاص، بعضهم يجلسون في جماعة، يأخذون أنفاسهم بعد الرحلة الشاقة متدثرين بالأغطية التي جلبوها معهم. البعض الآخر يجرُّون أقدامهم، يقودهم الجنود الأردنيون، نحو نقطة استقبال تتموضع في أعلى الهضبة. الغالبية العظمى من النساء والأطفال: حسب الإحصاءات، اثنان وعشرون بالمائة فقط من اللاجئين في الأردن هم من الرجال. اثنان وأربعون بالمائة ممن يدخلون هم قاصرون. كثيرون يحملون أطفالاً رضعاً ملفوفين في الثياب، بعضهم في عمر أيام وأسابيع، وبكاء الأطفال يخترق ظلام الليل الثقيل. مسنون على أكتاف الرجل الأقوى بنية يكملون الصورة. سواء أكانوا من أقربائهم أو لم يكونوا: قافلة الهروب والخوف تؤاخي بين أولئك الذين يشكلون جزأً منها.
مجموعة من الشباب المستترين وراء كوفياتهم التقليدية، يوافقون على الكلام على أن لا يتم تصويرهم. يؤكدون أنهم أعضاء في الجيش السوري الحر مكلفون بإخلاء السكان المدنيين ومسؤولون عن هذه القافلة من اللاجئين. “اليوم أحضرنا 1200 لاجىء”، يوضح أحدهم، الذي يعرف عن نفسه بأبو سعود. نظرة سريعة إلى ما حولنا تجعلنا نفكر أن القافلة ليس مبالغاً فيها على الإطلاق. يقول إنهم مشوا أربع ساعات أثناء الليل، وإنهم في كل يوم يرافقون ما بين ألف وأربعة آلاف مدني من محافظة درعا. “الجيش السوري الحر استعاد كثيراً من الأراضي خلال الشهرين الماضيين ولهذا فإن النظام كثَّف من عمليات القصف ضدنا”.
يؤكد أبو سعود أن الوضع في درعا لا يحتمل. “لا يوجد كهرباء، لا يوجد خبز، المشافي الميدانية لم يعد لديها موارد. نحن نقوم بإخلاء المصابين على أكتافنا”، يقول قبل أن يضيف إن نصف المصابين الذين ينجحون بإيصالهم إلى الأراضي الأردنية عن طريق هذه النقطة فقط هو ما بين عشرين وثلاثين في الليلة الواحدة. رافق الشاب اليوم عائلته الخاصة: والده، والدته، أربعة أخوة وثلاث أخوات. “ما ال هناك آلاف الأشخاص ممن يحتاجون للإجلاء، مختبئين في الأقبية وينتظرون الفرصة للهروب، الحصار العسكري والقذائف يمنعانهم من الخروج”.
بعد تسجيل أنفسهم مظهرين هوياتهم الشخصية أمام السلطات الأردنية، يستلم اللاجئون أغطية ويتوجهون إلى إحدى الخيام الكبيرة حيث بالكاد يحميهم البلاستيك من الهواء المتجمد”. “بقي القليل من الناس داخل محافظة درعا. عمَّا قريب لن يبقى أحد في سوريا. سنأتي كلنا إلى الأردن”، يقول واحد من اللاجئين، شاب في الثامنة عشرة من عمره وصل برفقة أخته وزوجها وأربعة من أولاد أخته. “بالنسبة لنا ليس القصف شيئا جديداً، لكنهم لم يقصفوا قط كما في اليومين الماضيين. إنهم ينتقمون من الجيش السوري الحر بسبب تقدمه عسكرياً. اليوم، سقطت قنبلة على منزلنا. لقد تدمر. أخذنا ثيابنا ورحلنا: خرجنا عند الساعة الثانية والنصف ظهراً ووصلنا عند التاسعة والنصف مساءً. الطريق كان قاسياً جداً، رغم أن الجيش الحر ساعدنا بعرباته في المناطق التي توجد طرقات فيها”، يواصل الشاب كلامه، بنضج غير معتاد في عمره، بينما يراقب بمؤخر عينه أولاد أخته، المتشبثين بتنورة والدتهم.
الفارق الذي يجعلهم يهربون بالمئات في الوقت الراهن، توضح لنا مجموعة أخرى من اللاجئين المتزاحمين في إحدى زوايا الخيمة، هو نوع القذائف التي يستعلمها النظام السوري. “إنهم يقصفوننا بالسكود الآن، ومن هذا الشيء ليس هناك طريقة للاحتماء”، يقول أبو فراس. “منذ عشرة أيام وهم يطلقون علينا السكود والناس خائفون جداً. علاوة على ذلك، هم يقصفوننا من الجو ببراميل الديناميت، ويطلقون علينا القذائف من عيار 120 ميليمتر… معظم البيوت تهدمت: في كل مرة يتقدم فيها الجيش الحر، يزداد القصف كثافةً. بما أن النظام لا يمكنه القضاء على الجيش الحر، فإنه يقوم بقصف المدنيين”.
بعد أن تدفأوا في مركز الاستقبال، يصعد اللاجئون إلى وسائل نقل أردنية تتوجه بهم إلى مخيم اللاجئين. في نقطة أخرى على الحدود، ملأت الأمطار خزان (سد) مياه، اعتاد اللاجئون على عبوره على أقدامهم في الصيف. أما الآن، فينقلهم زورق بخاري إلى الجانب الآخر من الحدود: الجيش الأردني الهاشمي يقدِّر أن ألفاً وخمسمائة يهربون يومياً على متن القارب المتزعزع.
“خلال ستة وثلاثين عاماً في الجيش ومن التعامل مع كل نوع من أزمات اللاجئين، لم أر شيئاً شبيهاً”، يقر العميد زيود بينما ينظر إلى السد، طالباً عدم التعريف عن اسم مكانه. “في إحدى المناسبات، أذاعت إحدى محطات التلفزة العربية خبراً عن دخول لاجئين عبر هذه النقطة، معلنة اسم المنطقة. في اليوم التالي، قام النظام السوري بقصف مدخل السد”. على الجانب الآخر من الحدود تنقضُّ الانفجارات المتواصلة على قرية قريبة مسببةً اهتزازالأرض بشكل طفيف، مذكرةً بما يحمل السوريين على الفرار. واحد من اللاجئين يصف الأمر من دون انفعال. “القذائف تسقط كالمطر”.
ترجمة: الحدرامي الأميني