كاتب ومفكر عراقي
هناك الكثير من الأشعار والأمثال التي تناولت موضوع العمى ومنها ” نور البصيرة ولا البصر”، و” إن أصحاب البصيرة يدركون ما لا يدركه المبصرون”. وهذه حقيقة فهناك الكثير من العلماء والأدباء والشعراء فقدوا البصر ولكنهم كانوا أقوياء البصيرة، لم يمنع العمى المعري وطه حسين والشاعر جون ملتون، وهيلين كيلار ولويس برايل وغيرهم من إرتياد واحة العظمة والإبداع.
العمى يعني من الناحية الطبية فقدان الإدراك البصري عند الفرد، وهو أنواع منها العمى الدائم، العمى الوقتي، العمى الجزئي، العمى اللوني، والعشي الليلي، الرمدي، وأخيرا العمى النفسي الذي يصاحب الهيستريا. ولكن في الجهة الأخرى يوجد نوع ثاني من العمى وهو عمى القلوب، عمى العقول، عمى الضمائر وعمى المواطنة. وحديثنا يتعلق بالنوع الثاني من العمى.
مثلا عندما يتفرج الشعب على مصائبه لا يحرك ساكنا، ولا يزيد موقفه عن الفرجة كأن بكل لا مبالاة، فهذا عمى العقول، وأشده خطورة العمى الجماهيري، أو العمى الشعبي.
وعندما يفرط الشعب بالوطن لحساب الطائفة فهذا عمى القلوب لأنه الدين والوطن متلازمة. الدين قابل القسمة على نفسه وعلى غيره، ولكن الوطن غير قابل على القسمة لأنه خيمة لجميع الأديان والمذاهب.
عندما يُقتل البريء على الهوية وتسرق ممتلكلته أو تحرق أو تًدمر أو تباع من قبل القوات الحكومية وملحقات الحكومة من الميليشيات الطائفية، فهذا عمى الضمائر، لأن الضمير يتعرض لوخزة إبرة قوية تنبه صاحبه على الخطأ والخطيئة، ولكن عندما تتحول الوخزة إلى مداعبة ريشة ناعمة، يفقد الضمير الإحساس بالألم، فلا ينبه صاحبه على تداركه ويستبعد عنه الندم والتوبة والإعتراف أيضا.
عندما يُولى القائد ولائه المطلق لحزبه أولا، ولدولة جارة ثانية، ولشعبه ثالثا، فهذا عمى المواطنة. لأن القائد الذي يفهم شعبه ومصالحه ويعمل على سعادته ورفاهه يفترض أن ينظر الى المجموع وليس إلى الجزء، النظرة الى الجزء حول على أقل تقدير، والحول أخو العمى.
بالتأكيد عمى الشعوب يقوي بصر الحاكم، والشعب الأعمى هبة الشيطان للطاغية، وفرحة القائد بعمى شعبه مثل فرحة الذئب بلقاء خروفان منفردة ضائعة.
في تصريح أداى به وزير الدفاع العراقي لوسائل الإعلام أثار فيه الإستغراب، وكان أشبه بطلسم يحتاج إلى فك رموزه. فقد صرح الوزير للصحافيين يوم 9/1/2015 خلال مؤتمر عقده بمدينة مخمور غرب الموصل، إن وزارته تنسق جهود محاربة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، مع كل من قوات البشمركة الكردية والتحالف الدولي، وأضاف هذا الطلسم ” سمعت بتواجد الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، في جبهات القتال منذ أربعة أشهر، لكني لم أشاهده أبداً”!
التصريح مثير جدا، لأن الوزير ربما جمع فيه كافة أنواع العمى التي سبق أشرنا إليها، من المعروف عن أهل الموصل عندما يرتكب أجد أبنائهم خطأ أو هفوة ما يقولون له (العمى) ولأن الوزير من الموصل سنقول له نفس الكلمة! لنناقش الموضوع من وجهات نظر مختلفة ومتباينة. ولكن لا بد من التنوية بأن هذا النفي صدر أيضا من السفير العراقي لدى طهران، (محمد مجيد الشيخ،) الذي أكد بأنه” لا وجود لقوات إيرانية تابعة للحرس الثوري في العراق للمشاركة في الحرب الدائرة بين الجيش العراقي وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش”. وأضاف الشيخ الأمعي”ما نشرته بعض وسائل الإعلام الغربية عن وجود قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، وعدد من قيادات الحرس الثوري في العراق لدعم حكومة المالكي، غير صحيح”. لكننا سنغض النظر عن تصريح السفير لأنه أصلا إيراني الجنسية، ولأن القتلى الإيرانيين في سامراء الذين تم تشيعهم في إيران مؤخرا تفضح كذبه! وإنه يضحك على نفسه بنفي وجود قوات إيرانية أو الجنرال سليماني في العراق. سنستعرض ما يؤكد حقيقة وجود سليماني في العراق وإنه ليس عفريتا تتحدث عنه الناس ولا تراه من خلال أربعة مصادر.
أولا. تأكيدات إدارة البيت الأبيض.
سبق أن صدرت عدة تصريحات من قبل مسؤولين أمريكان حول الدور المتزايد للجنرال سليماني في العراق حنى إنهم وصفوه بصراحة “الرجل القوي في العراق” و” الحاكم الفعلي في العراق”، ويمكن الرجوع إلى هذه التصريحات بسهولة في المواقع الألكترونية والصحف الأمريكية. وأشارت المجلة الأميركية (نيوزويك) الى أن ” سليماني الذي يتخفى عن الظهور غالباً فقد سمح أن تلتقط له صورة في أيلول 2014 في أرض المعركة في آمرلي حيث كان يهدف من ذلك بوضوح الى بعث رسالة للغرب بأن طهران متواجدة فعلياً في العراق”. وتنقل المجلة عن أحد المسؤولين السياسيين العراقيين الذي رفض الكشف عن اسمه “إن سليماني يتواجد في بغداد وشمال العراق بين الحين والآخر، وبالطبع فإن الحكومة العراقية تعلم ذلك”، مبيناً انه ” ذكيا ورجل يحب الحروب وخبير في هذا المجال”.
في شهر تشرين الثاني عام 2014 أقر الكونغرس الأمريكي تسليح الحكومة العراقية بمبلغ مليار و200 مليون دولار، وجاء في التقارير الأمريكية خلال احدى الجلسات المغلقة ” برر المسؤولون في إدارة الرئيس أوباما وصول عتاد الى ايدي هذه الميليشيات بالقول إنه لا سبيل لديهم لحصر السلاح الأميركي، وأن الحكومة العراقية وحدها يمكنها القيام بذلك، وانه حكومة حيدر العبادي مازالت غير قادرة على حصر واحصاء مخازنها للأسلحة”. ويبدو إن هذه التصريحات أثارت أحد النواب المشرِّعين المشاركين في الجلسة، الذي قال ساخراً ” إذا كان الحال كذلك، لماذا لا نكتب شيكا بقيمة مليار و200 مليون دولار ونرسله مباشرة للحجي قاسم سليمان؟”. لاحظ! إرسال الشيك ليس لحيدر العبادي ولا لقتيبة الجبوري ولا للرئيس الصوري فؤاد معصوم، وإنما للجنرال سليماني حصرا! ماذا يعني هذا يا وزير الدفاع؟ من يدير القوات المسلحة العراقية؟
ثانيا: تأكيدات نظام الملالي في إيران.
ذكرت وكالة (تسنيم نيوز) التابعة للحرس الثوري في تشرين الثاني/2014 تقريراً مفصلاً عن دور سرايا الخراساني ” إن سرايا الخراساني بقيادة قاسم سليماني هي التي حسمت معركة جرف الصخر لصالح الميليشيات الشيعية بعد معارك عديدة لم تنجح فيها هذه الميليشيات”. واعترف ممثل مدينة طهران بالبرلمان الإيراني علي رضا زاكاني بتدخل فيلق قدس الإيراني وزعيمه سليماني في العراق قائلا ” لو لم يتدخل الجنرال قاسم سليماني في الساعات الأخيرة بالعراق، لسقطت بغداد بيد تنظيم داعش، كما أن هذا التدخل طبق على سوريا”.
بتأريخ 13 /10 /2014 أكد مستشار ممثل المرشد الايراني في الحرس الثوري يد الله جواني ” وجود قوة قدس التابعة للحرس بقيادة الجنرال قاسم سليماني في الصف الأول في جبهات القتال في العراق وسوريا للدفاع عن الشعبين السوري والعراقي ومقدساتهما وحكوماتهما المشروعة”، على حد تعبيره. من جهة أخرى نقل موقع عصر قانون الإخباري الإيراني بتأريخ 9/1/2015 عن مجلة
(The Algemeiner)
الأمريكية أن موكب قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، تعرض لعملية انتحارية عند أطراف مدينة سامراء قبل أيام، وأصيب سليماني بجروح بالغة وتم نقله إلى طهران. وذكرت المجلة أن المصادر الرسمية لم تؤكد الخبر،. بالطبع ولن تؤكده أبدا إلا في حال موته.
3. تأكيد الأمم المتحدة
ذكر فريق مراقبي الأمم المتحدة للعقوبات المفروضة على إيران، في تقرير له ” إن قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني تم تصويره وأخذ تسجيل فيديو له في مناسبات متعددة بدا فيها أنه يتواجد في العراق. وهذا يعد خرقاً لحظر السفر مع تجميد أمواله المفروضة عليه منذ العام 2007 من قبل مجلس الأمن”. علما إن واشنطن قد صنفت قوات فيلق القدس التي يرأسها سليماني في عام 2007 والاتحاد الأوربي عام 2011 بأنها قوةً داعمةً للإرهاب.
4. تأكيدات المسؤولين العراقيين
ذكر الإرهابي الدولي زعيم مليشيا بدر هادي العامري” إنه لولا التدخل الإيراني وقيادة الجنرال قاسم سليماني، لكانت حكومة العبادي قد تشكلت في خارج العراق، ولسقطت بغداد بيد المسلحين”. وهو نفس ما رددٌه زعيم المجلس الأعلى الشيعي، عمار الحكيم، في وقت سابق من طهران بقوله” لولا إيران لسقطت أربيل عاصمة إقليم كردستان أيضاً بيد داعش”. كما أشارت صحيفة (الوثيقة نت) الإلكترونية العراقية نقلاً عن مصدر مسؤول في الحشد الشعبي العراقي ” أن إيران قررت أن تستبدل قاسم سليماني بشخص آخر، بسبب إصابة قائد فيلق القدس في منطقة الهاشمية القريبة من مدينة سامراء. فقد أصيب قاسم سليماني قرب مدينة سامراء قبل ما يقارب أسبوعين، وتم نقله على الفور إلى بغداد ومن بعدها إلى النجف ولإكمال علاجه انتقل إلى طهران”.
وبعد يا وزير الدفاع!
1. لم نتحدث عن الصور والأفلام التي تتداولها وسائل الإعلام والمواقع الألكترونية للجنرال سليماني وهو يتجول في العراق سيما في المناطق الساخنة بصحبة رفيق دربه العامري أو بقية الصور مع مقاتلين عراقيين من الجيش أو عناصر الحشد الطائفي، ربما يدعي الوزير بأنه في عالم الحاسوب والتقنيات العالية لا يوجد مستحيل، وجميع الأفلام والصور لسليماني في العراق مفبركة.
2. ربما فعلا لم يرٌ وزير الدفاع العراقي قائده سليماني! ليس لأن الجنرال سليماني غير مرأي أو يلبس طاقية الإخفاء مثلا، بل لأن الجنرال سليماني لا يلتقِ بمستوى وزراء فقد كانت لقاءاته السابقة على مستوى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء فقط! حتى رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي الذي شارك في مراسيم عزاء وفاة أم سليماني لم يعبره الجنرال أبدا! لذا لا يتنازل الجنرال سليماني للقاء وزير من جحوش أهل السنه، بصرف النظر عن موقعه على الخارطة العراقية. لنستذكر الطلسم الذي كشفه الرئيس السابق الطالباني بقوله “الإجراءات كانت ستنتهي بسحب الثقة عن المالكي، لكنني فوجئت بأتصال من قاسم سليماني، إذ قال لي إننا نريد بقاء نوري المالكي رئيساً للوزراء”!
لكن هذا لا يعني عدم وجود إرتباط بين سليماني ووزير الدفاع العبيدي، لأن هناك الخط الهاتفي المحوري بينهما، فهو أي الوزير يستلم الأوامر من سليماني عبر الهاتف المحوري مباشرة، أو بشكل غير مباشر عبر الوسيط رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي ينقل له أوامر سليماني حرفيا.
3. إدعاء الوزير ـ لو صح بعدم مشاهدته سليماني ـ يمثل إساءة الى شخص الوزير نفسه، فهو أشبه بلوحة القرود الثلاثة صم، بكم، خرس. لأن هذا يعني إن العمليات العسكرية التي تقوم بها قطعان الجيش العراقي مع الحرس الثوري الإيراني والحشد الطائفي تتم بمعزل عن الوزير، رغم مشاركة قطعانه العسكرية فيها، وهذه القطعات كما يبدو لا علاقة لها بوزير الدفاع وترتبط بسليماني فقط! وهذا ما لايقبله قائد له ذرة من الشرف العسكري والمهني والغيرة الوطنية، فما في بالك بوزير لوزارة سيادية؟
4.لا يغيب عنا تصريح مثال الآلوسي، عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي لصحيفة الشرق الأوسط بأن” سليماني لا يحتاج إلى إذن من أحد لدخول العراق والخروج منه، بل هو أعلن عن مشاركته في المعارك الدائرة ضد تنظيم داعش، وسليماني يملك بيتًا في المنطقة الخضراء في بغداد، التي تضم مقرات الحكومة والسفارة الأميركية نفسها”.
المثير في الأمر إن وزير الدفاع العراقي يسكن أيضا المنطقة الخضراء، بمعنى هو وسليماني جيران، وقد أوصى النبي المصطفى بسابع جار،! فالوزير ليس فقط لا يعرف وزارته وجنوده الفضائيين والصفقات الفاسدة في الوزارة، وما يجري على جبهات القتال فحسب، وإنما لا يعرف حتى جيرانه!
علي الكاش