هذا المقال بقلم علي شهاب وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة “سي ان ان”
طالعتنا أخيرا جريدة هآرتس بتقرير لمراسلها باراك رافيد حول التعاون الاسرائيلي مع “المسلحين” السوريين.
حتى الأمس ظلت الأنباء عن التدخل الاسرائيلي المباشر في سوريا رهينة تقارير غير مدعمة بوثائق، اذا ما استثنينا الغارات الجوية العلنية التي تحرص تل أبيب على وضعها في سياق “منع حزب الله من امتلاك سلاح كاسر للتوازن”، لا في سياق التدخل المباشر في الأزمة السورية.
الاسبوع الماضي، نفذت الطائرات الاسرائيلية غارتين جديدتين في توقيت محلي على ما يبدو أكثر منه اقليميا، فتراجع شعبية نتنياهو وفشله في تأمين ائتلاف حكومي عنصران لا يمكن اغفالهما عند الحديث عن الغارتين الاخيرتين.
غير أن تعقيد الملف السوري والمتصل به لبنانيا تحديدا يجعلان من الغارات المتكررة في هذه المرحلة فتيلا متفجرا لحرب متدحرجة لا يريدها احد في الشرق الأوسط.
ولايضاح هذه النقطة لا بد من تسليط الضوء من الزاوية الاسرائيلية على المصلحة الاستراتيجية في ما يجري في سوريا منذ بدء الأزمة قبل أربعة أعوام تقريبا.
تقولُ الأسطورةُ الاغريقيةُ إن هِرَقْلَ قتلَ كائناً عملاقاً له تسعةُ رؤوسٍ تَنفُثُ السُّمَّ من أنيابِها، وكانَ كلما قطعَ رأساً من تلكَ الرؤوسِ نبتَ له اِثنان، فقامَ عندَها هرقل بإشعالِ جذعِ شجرةٍ وأخذَ يَكوي موضعَ كلِّ رأسٍ بعدَ قطعِه حتى لا تَنمُوَ رؤوسٌ جديدة.
نقلت اسرائيلُ قصةَ الهيدرا من الأسطورةِ الى الواقع. المتابعُ لسياقِ السياسةِ الاسرائيليةِ اِزاءَ سوريا في العقدِ الأخيرِ يلحظُ تركيزاً على ضرورةِ فصلِها عما تعتبرُه تل أبيب محورَ الشر، باعتبارِها احدَ الرؤوسِ المؤثرةِ في هذا المحور.
في كانون الأول من العام 2007. ومن معهد الامن القومي في تل أبيب، الخبيرُ الاستراتيجيُ داني بركوفيتش يُصدرُ دراسةً معمقةً حولَ السبيلِ لاضعافِ حزبِ اللهِ تحتَ عنوانْ “هل يمكنُ قطعُ رؤوسِ الهيدرا”.
أفردَت الدراسة، في صفحاتِها الستِ والتسعينَ، مِساحةً هامةً للحديثِ عن العنصرِ السوري الذي من شأنِه كسرُ الحلفِ الممتدِ من طهرانَ الى جنوبِ لبنانَ او بالحدِّ الأدنى إضعافُه .
لم يكن داني بركوفيتش الوحيدَ الذي يُنظِّرُ لقطعِ رأسِ الهيدرا السوريةِ في العقدِ الأخير، لكنه كانَ من بينِ قلةٍ ممن يتحدثونَ بشكلٍ عملانيٍ عن سبلِ ضربِ الحلْقةِ الثانيةِ في المحورِ المعادي لاسرائيل.
حاليا بدا التدخلُ الاسرائيليُ اكثرَ وضوحا، بعدَ أنْ مرَّ النقاشُ في المستويينِ الأمني والسياسي في تل أبيب حولَ سوريا بمحطاتٍ عديدةٍ في العقدِ الأخير؛ مدفوعاً بأهدافٍ محددةٍ لتغييرِ مواقفِ دمشقَ وفكِّ تحالفاتِها وصولاً حتى إسقاطِ النظامِ في حالِ فشلِ الضغوطِ السياسيةِ والاقتصادية.
لاسقاط النظام لطالما صوبت اسرائيل في نقاشاتها باتجاه بشار الأسد. تكادُ الدراساتُ والتقاريرُ الاسرائيليةُ التي تصفُ تجرِبةَ الأسد الابن في حُكمِ سوريا تُجمعُ على أنَ المشكلةَ الرئيسيةَ معه تتمثلُ في دعمِه حزبَ اللهِ، وتحالفِه الوثيقِ معَ ايران.
إيال زيسر، الخبيرُ الاسرائيليُ في الشأنِ السوري، نشرَ كتاباً في العامِ 2005 ألفينِ وخمسة بعنوان “بشار الأسد: السنواتُ الأولى مِنَ الحُكم”.
كتبَ زيسر أنَ الأسدَ الابنَ استطاعَ كسبَ تأييدٍ في مختلِفِ قطاعاتِ المجتمعِ السوري بفضلِ “شخصيتِه كشابٍّ حازمٍ ونشِطٍ ونظيفِ الكفِّ وثقافتِه وسرعةِ استيعابِه، الأمرُ الذي يجعلُ عمليةَ اسقاطِ النظامِ السوري صعبةً بالنسبةِ لاسرائيل”.
ومع ان النظام السوري يحمل في تركيبته الكثير من مكامن الضعف لجهة انتشار الفساد وعدم ادارته للتنوع القومي والطائفي بأفضل ما يكون خلال السنوات التي سبقت الازمة، فإن التقييم الاسرائيلي لشخص بشار الأسد لا يخفي صراحة الانزعاج منه كجار قوي ضَمِن استقرار سوريا طوال السنوات الماضية.
منذ بدء الحرب السورية، توالت المواقف الاسرائيلية التي تلخص مصلحة تل أبيب الاستراتيجية في ما يجري في هذا البلد:
الثلاثينَ من آذارَ| مارس 2011، شيمون بيريز يعربُ من جنيف عن تفاؤلِه بالثورةِ السوريةِ التي من شأنِها “ايجادُ جارٍ أفضلَ لاسرائيل”.
السابعَ من حَزيرانَ | يونيو 2011، المحررُ السياسيُ في صحيفةِ “معاريف” عوفر شيلح يتحدثُ عن حملةٍ اسرائيليةٍ دوليةٍ للتحريضِ على نظامِ الأسد.
في اليومِ نفسِه، وزيرُ الدفاعِ السابق ايهود باراك يصرحُ للإذاعةِ الاسرائيليةِ بأنَ نظامَ الأسد لن يستمرَ اكثرَ من تسعةِ أشهر، مشيراً إلى أنَ دمشقَ تشجعُ الاضطراباتِ في الجولان. باراك اعتبرَ انَ الأسدَ لم يَعُد شريكاً لمفاوضاتِ تسويةٍ معَ اسرائيل.
في الأسبوعِ نفسِه، توجهَ وزيرُ الخارجيةِ أفيغدور ليبرمان، إلى السفراءِ الاسرائيليينَ في الخارجِ ومندوبي اسرائيلَ في الأممِ المتحدةِ بطلبُ وضعَ القضيةِ السوريةِ في رأسِ سُلَّمِ الاهتمام، قبلَ ان يطالبَ ليبرمان بنفسِه الأسدَ بالاستقالةِ خلالَ لقائِه نظيرَه الألمانيَ في القدس، داعياً دولَ الاتحادِ الاوروبي الى سحبِ السفراءِ من دمشقَ والمجتمعِ الدولي لاستخدامِ رافعاتِه للضغطِ على الرئيسِ السوري كي يَتنحى.
الثامن من تموز 2011: صحيفة معاريف تتحدث عن مساعٍ لفتح اتصالات مع المعارضة السورية في سياق توصيات تطبقها حكومة بينيامين نتنياهو لتقليل الأضرار التي يمكن أن تلحق بإسرائيل في حال سقوط نظام الأسد.
كانون الثاني 2012: عاموس يدلين يعلن خلال محاضرة في معهد الامن القومي في تل أبيب إن “ما يجري في سوريا هو تغيير ايجابي استراتيجي لاسرائيل”.
بالتوازي معَ الترويجِ للمصلحةِ الاسرائيليةِ في إسقاطِ النظامِ السوري، تمَّ تعويمُ فكرةِ تقبُّلِ الاخوانِ المسلمينَ كبديلٍ معقولٍ يبتعدُ بسوريا عن تحالفِها معَ حزبِ اللهِ وإيرانَ ويحفظُ الهدوءَ عندَ الحدودِ الشَماليةِ لاسرائيل.
هذه النظريةُ أطلقَها بدايةً مارتن انديك، الدبلوماسيُ الأميركيُ الشهيرُ ونائبُ رئيسِ معهدِ بروكينغز حاليا، باعتبارِه أنَ إضعافَ النظامِ السوري مصلحةٌ اسرائيليةٌ ما دامَ أنَ مَن سيَخلِفُهُ لن يكونَ أسوأَ منه. وسرعانَ ما تلقفَ اكاديميونَ وسياسيونَ اسرائيليونَ هذه المقاربة.
يقول الكاتب الاسرائيلي ايال زيسر (صاحب كتاب الاسد) إن “إسرائيل سترحب أكثر بنظام إقطاعي أو موالٍ للغرب، لكن في حال حصل ذلك فلا بأس. يجب أن نفرق هنا، فهناك فرق بين الاخوان المسلمين الذين لا أعتبرهم متطرفين، والقاعدة ومنظمات جهادية متطرفة أخرى، فهي أمر مختلف”.
وعلى المنوال نفسه، نسج موشيه موعاز المستشار السابق وزير الدفاع الاسرائيلي عازار وايزمن للشؤون العربية باعتباره أن “هناك اعتقاد في إسرائيل بأن الإسلام والديمقراطية لا يجتمعان، وهذا غير صحيح”، في معرض دفاعه عن فكرة وصول الاخوان المسلمين الى الحكم كبديل للنظام الحالي.
ولكن، بعدَ تسعةِ أشهرٍ من بَدءِ الأزْمةِ السورية، اصطدمت الرغبةُ الاسرائيليةُ ومِن امامَها الأميركيةُ بعزلِ بشار الأسد بفيتو روسي- صيني مرتبطٍ بإعادةِ تشكُّلِ النظامِ العالمي وحزمٍ ايرانيٍ دفاعاً عن حليفِها الثاني عندَ الحدودِ الشَماليةِ لاسرائيل. تكررَ الفيتو الروسيُ – الصينيُ في شُباطَ | فبراير من العامِ الفينِ واثنَي عشرَ ضدَ قرارٍ يدعمُ خُطةَ الجامعةِ العربية لتسويةِ الازْمةِ السورية.
اليومَ؛ وبعدَ مرورِ اربع سنواتٍ على الأزمةِ وعدمِ توافرِ ظروفِ حلٍّ سياسيٍ في المدى القريبِ وتعقيداتِ دخولِ الحركاتِ المتطرفةِ في المعادلة، لم يَعُد بقاءُ الأسد من عدمِه في أولويةِ البحثِ الاسرائيلي بعدَ ان صارت مقاربةُ تل أبيب لهذا الملفِ مرتبطةً بمسارِ المعاركِ ميدانياً في سوريا والمساعي الدوليةِ لتسويةٍ سياسيةٍ تَحتوي خطرَ الحركاتِ المتطرفة.
وانتقل النقاش داخل اسرائيل الى البحث في فرضيات التعايش مع بقاء النظام السوري، بعد أن طرحت روسيا هذا الخيار في صلب مفاوضاتها مع الولايات المتحدة. ولئن كان من المبكر الحديث عن تسوية سياسية في المدى المنظور، فإن الهدفَ الأبرزَ في نظريةِ “قطعِ رؤوسِ الهيدرا” الاسرائيلية؛ أي فكَّ التحالفِ السوري معَ ايرانَ وحزبِ الله، لم يَتحقق، بل زادت اواصرُه.
وهكذا وجدت اسرائيل نفسها مضطرة الى الانتقال الى مرحلة جديدة والتعامل عسكريا مع الازمة وفق سيناريوهات متدحرجة بحسب ما يوحي مسار الميدان.