مصطفى فحص
لم يغب عن بال المعارض الأوكراني الذي رفع علم الثورة السورية إلى جانب العلم الأوكراني، على خيمة للمعتصمين في ساحة الميدان وسط العاصمة الأوكرانية كييف وإن كانت حركة عفوية، أن حركته تحمل دلالات كبيرة وبليغة، تقض مضاجع المراقب المقاول الروسي المستفز والمتوتر من أحداث أوكرانيا، وتداعياتها على المشهد الروسي الداخلي والخارجي.
ففي الاجتماعات الدورية التي تقيمها مؤسسة «فالدايا كلاب» وهي مركز يعنى بالدراسات السياسية والاستراتيجية وترعاه وزارة الخارجية الروسية، ويحضره عدد كبير من المسؤولين والدبلوماسيين والخبراء الروس، إضافة إلى ضيوف من الخارج معنيين بالوضع الروسي، وكانت تداعيات الربيع العربي على مستقبل السياسة الخارجية لروسيا حاضرة علنا وبشكل لافت، إلا أنه في القسم الداخلي من نقاشات الخبراء الروس كان انعكاس الأوضاع العربية ومساراتها المعقدة على الداخل الروسي هو الأهم.
إضافة إلى المداولات الأخيرة لوزارة الخارجية الروسية عام 2013 وتوصياتها السياسية التي صدرت عنها، ادعى المتداولون أن الحفاظ على الأنظمة في المنطقة، هو الضامن للاستقرار الدولي، الذي نصبوا أنفسهم أوصياء عليه، في إشارة إلى معاداة كل حركات التغيير في العالم، على طريقة تعامل روسيا السوفياتية، مع انتفاضات شعوب المنظومة السوفياتية ضد أنظمتها الاستبدادية والتابعة (بودابست وبراغ مثالا)، التي اتهمت أدوات خارجية بافتعاله، تماما كما تتهم انتفاضات الشعوب الآن بأنها ذريعة لتنفيذ أجندة مصالح خارجية، بدءا من جورجيا فأوكرانيا فالحركة الخضراء في إيران ثم انتفاضات الشعوب العربية.
تعترف القيادة الروسية ضمنيا بما تعتبره خطأ دبلوماسيا واستراتيجيا، بموافقتها على قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي سمح للمجتمع الدولي باستخدام القوة في ليبيا، معتبرة أنها لو منعت ذلك لما سقط العقيد القذافي، ولما وصلت الأمور إلى هذا الحد في سوريا، ولولا موقفها المتشدد في سوريا لكانت وصلت المظاهرات إلى طهران، وامتد الحراك إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، إلى أن تحط رحالها في موسكو.
وبعد الجدل الذي أثارته الانتخابات البرلمانية الروسية «الدوما» سنة 2011، واتهام المعارضة للسلطة بتزوير النتائج، من أجل إظهار التأييد الشعبي الواسع لحزب روسيا الموحدة الحاكم، الذي فشل في إقناع سكان المدن الكبرى وطبقاتها المتوسطة، بالتصويت لصالح سياساته الاقتصادية والاجتماعية، التي حولت روسيا إلى دولة ريعية بإمكانيات محدودة، إذا ما قورنت بحجم الدخل القومي الذي يعتمد أولا وبشكل كبير على مبيعات النفط والغاز، والحجم الجغرافي والتوزع الديموغرافي لروسيا ومتطلبات إعادة البناء، بعدما أهملت السلطات الروسية المتعاقبة للتركة السوفياتية، وعدم تنظيم دورة إنتاجية بديلة، تدخل روسيا إلى اقتصاد السوق بوسائل عصرية.
لقد استغل المعارض الروسي نيفالني احتجاجات أوكرانيا وخرج عن صمته من جديد، وقدم للرأي العام أرقاما مذهلة، عن حجم الفساد الذي رافق إعمار منشآت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، وجدد انتقاداته للنظام ولسياسات قمع الحريات، وخصوصا قانون منع التظاهر المثير للجدل، والذي أقره مجلس الدوما الروسي (البرلمان) بعد عودة فلاديمير بوتين إلى سدة الرئاسة سنة 2012.
كلام نيفالني تزامن مع إلغاء البرلمان الأوكراني لقانون منع التظاهر، الذي جرى استنساخه من القانون الروسي بمنع التظاهر وأقر بمباركة موسكو، هذا مع تصاعد حدة الاشتباكات بين المتظاهرين الأوكرانيين وقوات الأمن في كييف وعدة مدن أوكرانية، وتراجع كبير في مواقف السلطات الموالية لموسكو، أدى إلى استقالة رئيس الوزراء ودعوة السلطة المعارضة إلى المشاركة في الحكم، والحوار من أجل حل القضايا العالقة، في محاولة فاشلة من نظام يانوكوفيتش للالتفاف على الانتفاضة الشعبية العارمة التي لاقت دعما كبيرا على مستوى عالمي ظهرت آثاره جلية في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي منذ أسابيع.
لعل الإعصار الذي حاولت موسكو تجنبه في سوريا وصل إليها عن طريق أوكرانيا، جارتها الأكثر تأثيرا على مصالحها وأمنها القومي، والتي أصبحت ورقة جديدة في يد الغرب، يستخدمها في مواجهة سياسة روسيا المندفعة دون حساب لقدراتها وحجم وفاعلية أدوات تأثيرها، لعل هذا ما يفسر جزءا من التصلب الروسي المستجد في سوريا بعد فشل «جنيف 2»، والذي يزيده تأزما ارتفاع حدة المواجهات في أوكرانيا، وسقوط المزيد من الضحايا.
هل وقعت موسكو بين كماشتين يصعب الإفلات من أي منهما دون كوارث كبيرة.
منقول عن الشرق الاوسط