خطيب بدلة: العربي
– نعم، أنا عقلي صغير، أو، كما يقول أهل بلدتي (معرتمصرين) عقلي جوزتان في خُرْج، كلمةٌ تأخذني، وكلمةٌ تعيدني، باختصار أنا أهبل، حاشاك.
هكذا خطر لي أن أجيب ذلك المخرجَ التلفزيوني المقرّب من الأجهزة الأمنية عن السؤال الذي وجهه إليَّ ذات مرة. الحكاية وما فيها أننا كنا نجلس في مكتب رئيس دائرة المخرجين في التلفزيون السوري، بُعَيْدَ انطلاق الثورة بقليل، وإذا به يقول لي، بالطريقة نفسها التي كان الرائد أحمد، مسؤول التحقيق في فرع الأمن السياسي في إدلب يوجه أسئلته إلي:
– أستاذ خطيب، كيف تطاوعك نفسك فتوقِّع على “بيان الحليب”؟ أأنت عقلك صغير حتى تصدّق أن الجيش العربي السوري يمنع الحليب عن أطفال درعا؟
أحسستُ، في تلك اللحظة، بأن عليَّ أن أخرج من هذا المكتب بسرعة، ثم أغادر مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى غير رجعة، وأقرّر التوقف عن الكتابة للإذاعة، والتلفزيون، والصحف المحلية، وأذهب إلى إدلب، قبل أن يُنهي الجيش العربي السوري عملياته القتالية ضد الإرهاب في درعا، ويذهب شمالاً ليقطع علي الطريق ويعتقلني بوصفي إرهابياً،… وبمجرد ما أصل إلى إدلب، أتوجه إلى حيث تجتمع تنسيقية الثورة، فأنضم إليهم، وأطلب منهم أن يشطبوا عبارة “الشعب السوري واحد” من لافتاتهم، ويكتبوا مكانها الشعب السوري شَعْبان، شعبٌ مسنودٌ إلى جبل، يسيد ويميد، ويسرح ويمرح، ويدخل إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، ومؤسسة السينما، وجريدة البعث، وجريدة الثورة، وجريدة تشرين، دخول الفاتحين، ويجلس مُتَّكِئاً على الأرائك؛… وشعب خائف مرعوب، متنازلٌ عن ثلاثة أرباع حقوقه، وإذا جلس أحدُ أفراده من أمثالي في مكانٍ كهذا، فإنما يجلس عند حافة الكرسي، مثل المُخَوْزَق، ويتلقى السؤال ذا الطبيعة الاستجوابية بخوفٍ كثير، ويتأتئ، ويفأفئ، ويلف ويدور، ويؤكد لمن يستجوبه أنه ينظر إلى الجيش العربي السوري نظرة إجلالٍ وإكبار، ولكنْ، هناك مَن يَكْذِبُ، ويُلَفِّق، ويُفَبْرِك، ويُضَلِّلُ الناسَ المهابيلَ أمثالي، فيصدقون الأكاذيب، ويتحمسون لها، ويوقعون على العرائض المشبوهة.
أنا أهبل، بل إن معظمنا، نحن أبناء الشعب السوري (الثاني) مهابيل، بدليل أننا صدّقنا رواياتٍ كثيرة، تم اختراعها في الدول الإمبريالية المتآمرة والدول العربية والإسلامية الرجعية على أبناء الشعب الأول، وقادة الشعب الأول، وأعلنا الحرب على “السلطة السورية”، كما قال السيد لؤي حسين قبل أيام، وحاولنا المساس بمقام الرئاسة الذي يعتبره أصحاب منصة بيروت خطاً أحمر.
كانت عمتي الحاجة عيوش تقول إن الإنسان حينما يكبر عقله يكبر معه، وأما نحن فكان عقلنا ينقص، كلما كبرنا يوماً جديداً، فبعد لقائي المشهود مع ذلك المخرج (المُطَعَّم على مُخبر)، صَدَّقْتُ، أنا وأمثالي، أن الجيش العربي السوري يقصف الأسواق، والبيوت، والمستشفيات، بالمدفعية، والصواريخ، والبراميل، وأن رجال الأمن يغتصبون النساء في المعتقلات، ويُميتون الناس تحت التعذيب، ويحاصرون المدن حتى يجوع أهلها ويموتوا، من دون أن يكون لدينا دليل واحد ملموس، ولكم أن تتخيلوا أن كاتباً كعمر قدور الذي يزعم أنه فهيم وفهلوي، يكتب، في صحيفة الحياة، أن تقرير “أمنستي” الذي يَزعم أن السلطة السورية أعدمت ثلاثة عشر ألف معتقل شنقاً حتى الموت في سجن صيدنايا، صحيح مئة بالمئة، وقد كان حرياً بعمر قدور هذا أن يقرأ الرد الذي وجهه السيدُ وزير العدل في الجمهورية العربية السورية إلى “أمنستي”، وفيه سؤالٌ محرجٌ: إذا كان لدى السلطة السورية ثلاثة عشر ألف معتقل، وأعدمتهم جميعاً، فمن هو الذي خرج من سجن صيدنايا وأخبركم بأن هذا قد حصل؟! هذا، في الحقيقة، يشبه ذلك الرجل الذي خرج من بلدة مضايا قبل بضعة أشهر، ووقف أمام الكاميرا متحدثاً عن الجوع، بينما وجهه عامرٌ بالصحة والعافية، شبيهٌ بوجه المرأة التي وصفها وديع الصافي في إحدى أغانيه بأنها: سكرى