أمضيت عاما في قبرص، كانت جزيرة هادئة إلى درجة الملل. آمنة وبسيطة وكلفة الحياة فيها عادلة. وكان القانون فيها سيدالأحكام. وكان القبارصة يعتدّون ببلادهم ويخافون عليها. ومثل أهل الجزر في كل مكان، يحذرون الغرباء ويفضلون أن لا يروهم إلا سياحا عابرين. وكانت الليرة القبرصية أغلى عملة في العالم، كنوع من الاعتزاز رغم صغر الحجم. والقبارصة كانوا يفاخرون، ولو ضاحكين أو مضحكين، بأن ليرتهم أغلى من الليرة البريطانية التي استعمرتهم ذات يوم.
ثم سقط الاتحاد السوفياتي. ثم تفككت يوغوسلافيا. تدفق على الجزيرة الفاسدون وغسالو الأموال. يحكي فيلم «عرض غير لائق» لروبرت ردفورد قصة ثري يعرض على زوجة صبية مبلغ مليون دولار لقاء ليلة واحدة. ترفض في البداية ثم تبحث العرض مع زوجها ويقرران الرفض. لكن السوسة بدأت تنخر وإغراء المليون بدأ يمرمر حياة الزوجين. وفي النهاية تقبل المرأة، لكن كل شيء في حياتها يبدأ في الانهيار. قبرص قبلت العروض غير اللائقة وانقلبت حياتها كلها. واليوم تقف ذليلة عند أعتاب أوروبا تطلب إنقاذها. وأوروبيون يقولون: لا يمكن أن نساعد بلدا يغسل الأموال كالثياب الداخلية ويعلقها على السطوح.
تغير كل شيء في حياة قبرص. لم تعد بلدا هانئا ولا بسيطا ولا سعيدا بقناعته. صارت بلدا مثقلا بالديون. ازدادت أموال الناس وتضاءل كل شيء آخر. ومثل الزوجة في «عرض غير لائق» صارت قلقة في الليل ومهمومة في النهار.
قبرص التي عرفتها كان أهلها يرفضون بيع ثلاثة أشياء: الأرض والقانون والهيام بهذا البلد الصغير وكأنه القارة السادسة. كانوا «شوفينيين» مثل الآيرلنديين ومناصري الفريق الأهلي في مصر. وعاشوا يرفضون أن يدخل أحد بينهم وبين بلدهم. إلى أن وصل الصرب والروس ومعهم ذلك العرض غير اللائق. الفساد هو سوس الأمم.
بلدان أحببتهما: كينيا، التي كنت أعتقد أنها سوف تكون أجمل نموذج في القارة السمراء، فإذا الفساد يحولها إلى أسوأ النماذج في العالم. وقبرص، التي كان حماس أهلها لوطنهم نموذجا من الصعب تقليده، حتى في سويسرا أو آيرلندا أو ألمانيا. الفساد ينخر في الأمم دون توقف ودون تراجع ومن دون أي شفقة.
في «عرض غير لائق» يكون الزوجان في غاية السعادة والحب، لكنّ حادثا يجعلهما في حاجة إلى مبلغ 50 ألف دولار، فإذا بهذا الملياردير الكهل يطل ومعه عرض بمليون دولار. أخذا المليون، وفقدا كل شيء آخر.
شكرا د. ميسون البياتي على هذه المساهمة الرائعة التي اغنت الموضوع واضافت له