لو كان هذا العالم العراقي الجليل يعيش في أي دولة خليجية لطبعوا ملايين النسخ من موسوعته الطبية الغذائية، ولسخَّروا أجهزتهم الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية في خدمته، ومنحوه أعلى المناصب وأرفع الدرجات، ووشحوا صدره بأجمل الأوسمة، ولو كان في استراليا لأغدقوا عليه العطايا والهبات، ولو كان في أوربا أو أمريكا لترجموا موسوعته إلى اللغات الحية، ولذاع صيته وصيتها باعتبارها الموسوعة الأكبر والأشمل والأبسط في العالم، لكنه يعيش هنا في البصرة، في قرية فقيرة من قرى (أبو الخصيب)، وعلى وجه التحديد في (أم النعاج)، ويتعين عليه أن ينتظر الفرج العلمي، أو ينتظر وقوع معجزة ثقافية تعود بعقارب الزمن إلى عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي، والحسن ابن الهيثم، ومحمد بن سيرين، وواصل بن عطاء الغزّال، إلى الحقبة التي كانت فيها البصرة أيقونة العلماء، ومنارة الأدباء، وملاذ الفقهاء، فمؤسساتنا الوطنية منشغلة الآن بحروبها السياسية، التي لا تهدأ ولن تنتهي إلا بعد خراب البصرة.
أكبر موسوعات طب الأعشاب
صدرت في السنوات الماضية مجاميع متفرقة من الموسوعات المعنية بطب الأعشاب، لكنها لم ترتق إلى المستوى العلمي الشامل، الذي وصلت إلية موسوعة الأستاذ الدكتور داود جاسم الربيعي، ففي عام 1996 صدرت الموسوعة الدولية لطب الأعشاب بخمسة أجزاء لمؤلفها الأمريكي (إيفان روس) من ولاية نيو جرسي، وكانت بحجم (2700) صفحة.
ثم صدرت موسوعة الدكتور
(Andrew Chevallier)
عام 2000 وكانت بعنوان:
(ENSYCLOPEDIA OF HERBAL MEDICINE)،
وبحجم 600 صفحة، جاءت بعدها الموسوعة الإسلامية باللغة الانجليزية عام 2011 لمؤلفها (جون أندرو
John Andrew Morrow)
، وكانت بحجم 240 صفحة، بينما تتألف موسوعة الدكتور الرُبيعي من مجلدين بحجم (6000) صفحة، وهي أكبر بكثير من موسوعة الأستاذ الدكتور جابر بن سالم القحطاني، وأكبر من موسوعة الدكتور عبد الباسط محمد سيد، والأستاذ عبد التواب عبد الله حسين.
يتكون المجلد الأول في موسوعة الرُبيعي من أربعة أجزاء. تناول الجزء الأول منها عناصر الغذاء، وتناولت الأجزاء الأخرى الأعشاب الطبية التي تنمو أو الشائعة الاستعمال في الوطن العربي، أما المجلد الثاني فيتألف من (12) جزءً، كل جزء بحجم (450) صفحة، تتطرق إلى أمراض الجهاز الهضمي والعصبي والتنفسي والبولي والتناسلي، وأمراض المفاصل والعظام والأنف والأذن والحنجرة، وأمراض القلب والدم والغدد الصماء، والأمراض الجلدية، من حيث أعراضها وأسبابها ومضاعفاتها وعلاجاتها بالأعشاب والأغذية، معززة جميعها بالصور الملونة، وبالمستوى الذي يجعل منها مرجعاً مهماً للباحثين على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم.
من غابات الهند إلى الصحراء الكبرى
لم تكن رحلاته المتكررة إلى القارة الهندية محفوفة بالورود وقرع الطبول الراقصة في غاباتها الغنية بالثروات النباتية والحيوانية، فقد كانت مغامرة جريئة من المغامرات المحفوفة بالمخاطر، كان على موعد محقق مع الموت المحتوم في كل خطوة من خطواته، إلا أنه استطاع أن يتعايش مع أجوائها وبيئتها المليئة بالافتراس بصلابته وشجاعته وحكمته، فتنقل بين مفاوزها من دون أن يمتلك سلاحاً يدافع به عن نفسه، لم تكن معه أي أدوات سوى مجموعة من الأقلام والأوراق وعدسات التصوير وأجهزة التسجيل والتوثيق.
زار الهند خمس مرات. تجول في غاباتها الكثيفة، تحاور مع سكانها في قراهم البدائية، ركب زوارقها المزركشة وطاف بها في أنهارها المسحورة بنكهة معابد السيخ والتاميل، هبط إلى وديانها العميقة، تسلق جبالها الشاهقة، قطعها بالطول والعرض ومن الجنوب إلى الشمال. تعرف على مزارع التوابل، طاف في حقول (الهيل) والزعفران، تنقل بين سهول زراعة الشاي ووديانها الرطبة، حتى وصل مشياً على الأقدام إلى جبال هملايا، فعاش بضعة أسابيع في تجمعاتها القروية المسلمة، واكتشف أنهم لا يمتلكون مسجداً ولا مغتسلاً نظامياً، فعقد العزم على بناء المسجد من ماله الخاص، واجتمع مع رؤساء القبائل الهندية المسيطرة على المنطقة. طلب منهم تحديد مساحة من الأرض لبناء المسجد المطلوب، فاشترى الأرض من أصحابها، ثم دفع لهم المبالغ المخصصة لإنشاء المسجد وتأثيثه والعناية به، فاكتمل بناؤه في غضون بضعة أشهر.
أطلقوا على المسجد اسم (مسجد الرحمة)، وكتبوا على واجهته الأمامية لوحة كبيرة باللغتين العربية والهندية، تقول كلماتها: (شُيد مسجد الرحمة على نفقة المُحسن الحاج داود بن جاسم بن دعيج الرُبيعي)، والمسجد يُعد الآن من المعالم الدينية المعروفة في الضواحي المسلمة القريبة من جبال هملايا.
رحل عام 2005 إلى الصحراء الكبرى، ومرَّ بمدن الشمال الأفريقي، تجول في تجمعاتها الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، ثم واصل تجواله نحو الجنوب حتى وصل إلى ولاية (أدرار Adrar)، وهي ولاية حدودية تقع في الجنوب الغربي للجزائر، لها حدود مشتركة مع (مالي) و(موريتانيا)، تجول الرُبيعي في براريها، فزار مناطق (برج باجي مختار)، و(تيمياوين).
وهكذا تعرف على النباتات المتدرجة في السلم المناخي من المعتدلة الباردة إلى الحارة الجافة، فقارنها بالغطاء النباتي (الفلورا) في العراق والسعودية والأردن وبلاد الشام.
عيادة مجانية ومشتل في المشراق
أنتقل إلى سلطنة عمان فمارس التدريس في كلية التربية في (صحار)، حتى أصبح رئيساً لقسم الدراسات الجامعية. زار العراق عام 2005 وهو في عمان، فشاهد بأم عينه أزمات الدواء، ووقف على احتياجات الطبقات الفقيرة في الجنوب، فأسس عيادته الطبية الشعبية عند تقاطع (المشراق)، وكان يوزع العلاج على الناس بالمجان للمدة من 2005 إلى 2008، ثم أسس المشتل الزراعي في (أم النعاج) مقابل سجن البصرة المركزي بموقعه الجديد، زرع فيه الفطر الزجاجي، وأزهار القطف، والنباتات الداخلية، والأعشاب الطبية، بيد أن الظروف الخدمية القاسية المتمثلة انقطاع مياه الإسالة، وارتفاع ملوحية السواقي والجداول المتفرعة من شط العرب، وانقطاع التيار الكهربائي، وغياب الدعم الحكومي تسبب في توقف العمل بالمشتل.
العودة إلى جامعة البصرة
عاد إلى سلك التدريس في جامعة البصرة، فأصبح رئيساً لقسم الجغرافيا للمدة من 2009 إلى 2010، ثم صار عميداً لكلية الآداب للمدة من 2010 إلى 2012، فاستهدفه أصحاب الوجوه الزئبقية بأقلامهم المعدة لوأد الكفاءات العلمية، واستبدلوه بمن هو أقل منه علماً وكفاءة ودرجة، فكان بديله من تلاميذه، وتحول الأستاذ الرُبيعي إلى التدريس في قسم الجغرافيا، وهكذا ترأس التلميذ على الأستاذ في ظاهرة صارت من الأمور المألوفة في الوسط العلمي العراقي.
وهكذا وجد الرُبيعي نفسه متفرغاً بعدما أزيحت عنه أعباء العمادة، فانصرف لكتابة هذه الموسوعة العربية الشاملة الكاملة المبوَّبة المفصّلة.
الرُبيعي في سطور
هو داود بن جاسم بن دعيج الرُبيعي، من مواليد مدينة العمارة عام 1950، أكمل دراسته الثانوية في ميسان، وحصل على البكالوريوس من جامعة البصرة بالمرتبة الأولى، ثم حصل على الماجستير من جامعة بغداد بتفوق، وحصل على الدكتوراه من بريطانيا بامتياز، عمل في التدريس الجامعي منذ عام 1975 حتى يومنا هذا.
تحرى عن الأعشاب الطبية في عدد من الدول العربية كالعراق والأردن واليمن والسعودية والجزائر وسلطنة عمان والمغرب وقطر والإمارات العربية، وتحرى عنها في شبه القارة الهندية.
مارس العلاج بالأعشاب الطبية والتغذية لأكثر من (11) عاماً. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات عن العلاج بالأعشاب الطبية.
أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. رُشِح كأفضل باحث في الجامعات العراقية عام 1987. رُشِح لجائزة (روكان) للعلماء دون عمر 40 سنة عام 1989. حصل على العديد من الشهادات التقديرية لجهوده العلمية المتميزة. وضع خبراته العملية والأكاديمية في هذه الموسوعة التي استغرق العمل فيها أكثر من ربع قرن.
كانت البصرة مَحجَّاً لطالبي العلوم والفنون والآداب، وأعجوبة حضارية غير مسبوقة، وكان للعلماء فيها شأن عظيم. يحترمهم العامة ويقدرهم الحكام، ولم يبق مجال في العلم مما نعرفه اليوم إلا وكان لعلماء البصرة حصة فيه، لكنهم يغردون الآن خارج السرب، في الزمن الذي تعالت فيه أصوات تجار الخردة والسكراب، بينما انزوى علماؤها في بساتين (أبو الخصيب)، أو في أحياء الزبير وتبعثروا في قرى القرنة والتنومة والهارثة، وظل الخليل بن احمد الفراهيدي غريباً في مدينته، مستوحشاً في وقفته الحائرة على ضفاف نهر العشّار المصاب بكولسترول الأطيان