نظرت إليّ بازدراء وكأني بصقت بوجهها أو نطقت بكلمة غير لائقة بحقها بعد أن أبديتُ رأيي ونصحتها بالطلاق , الطلاق …هذه الكلمة المرعبة التي تصفع سامعها بشدة وكأنها دعوة للفسق والجهر به , وكأنها دعوة لطلب حياة الإباحية التي لا سائل فيها ولا رقيب عليها بعد أن اعتادت على ان تُسأل وتكون تحت وصاية الزوج دون وصاية نفسها ,بعد أن اعتادت لسنوات صار فيها الزوج رقيبا عليها دون نفسه فأدمنت حقه في ما يشاء وبلا رقيبٍ بلا حساب متوهمة شيئاً فشيء بأنها طبيعة الرجل والمرأة ,فالرجل لا يعيبه شيء سوى جيبه , فلا يعيبه أن فسدت أخلاقه ولا يعيبه أن كذب عليها أو حتى خانها أو سرق مالها , فشرفه مقرون بشرفها وبأخلاقها هي ,ولا شرف له سوى شرفها .
أبديت رغبتي لها بعد أن وجدتُ فيها ما لم أجده قبل زواجها ,وبعد أن كثُرت شكواها وآهاتها التي بدأت تثقل حياتها وتحصرها رغم أنها كانت تتقد طموحاً ورغبة بالعطاء .
— كان طموحكِ كبيرا لا يحده شيء فكيف بجدران مثل هذه تحدُ من رغبتكِ في ان التفاعل مع الحياة وأخذ دوركِ ؟
كيف صار الأمان مستقراً خلف هذه الجدران بعد أن حجبت نظركِ واقتصر دوركِ خلفها ,تطهين الطعام وتعتنين بالأبناء واكتفيتِ بهذا القدر الذي يصلح لروبوت بلا عقل وتحولتِ إلى هذا الروبوت بمرور الأيام ومن ثم تصورتِ بأنكِ كسبتِ الشرف المقدس المطعّم باسم الزوج والأمومة…
قلت لها هذا لأذكرها بحلمها القديم الذي طالما حلمت به , وقارنتُ بينه وبين وضعها اليوم بعد ان دفعت ثمنه من كرامتها وحريتها ,أنا التي تعودت على زياراتها الخاطفة كل ما تسنى لي الوقت لزيارتها وسنحت الفرصة للقائها, الفرصة كنتُ اختلسها من زحمة العمل الذي يستدعي تفاعلي وحركتي المستمرين , كنت لها المنفذ الذي به تطّلع على ما يدور من أحداث خارج جدرانها , منفذاً ومثلاً أعلى كوني أمتلك ذاتي ووقتي ومالي بعد ان رفضت الزواج ممن تقدموا لي لحين ان يأتي الوقت المناسب للزواج , أو يأتي الشخص المناسب دون ان أستعجله أو أحصر أحلامي به ,وهي التي اختارت من الحلول الزواج لها وأنجبت الأبناء لرغبة زوجها ولتُكمّل سنّة حياتها فقط .
-. ولا زلتُ مقتنعة بحلمي القديم , ولكن … هناك الكثير من القيود فُرضت عليّ وصرتُ أرى بزوجي الملاذ الآمن يؤمّن لي حياتي وكذلك رأيتُ بأن لا مفر من طبيعة الأنثى التي تكمن بداخلي ,وخصوصا بأن حياتي تقترب من المألوف والسائد بمجتمعنا والمحيطين بي فلا قدرة لي على ان أخرج من ما هو مألوف , وخصوصا الزواج , فهو سندي وقوتي , وما عليّ سوى مزيدا من الصبر والتحمّل فهذا واجبي وقدري وقسمتي وخصوصا وقد فاتني الكثير من الأوان بعد أن مضت السنوات بي في غفلة مني ودون وعيٌ مضت مسرعة , وكأنها حلم وكأنها سراب .
أجابتها بصوت لا يخلو من نبرة الحزن وانعدام الثقة وهي تناولها فنجان القهوة الذي أعدته لها بعناية وأحسنت من اختيار فنجانه المذّهب كما تعلمت وأتقنت هذا الفعل بمهارة ودقة متناهيتان بعد أن سخّرت حياتها وحرصت على أن تُظهر أشيائها جميلة وجديدة دوما وتُظهر بيتها نظيفا كامل الأناقة ليكون أجمل بيتا وسط معارفها .
-. لا يوجد شيء ثابت في حياتنا ولا يوجد شيء اسمه طبيعة , بل هناك إنسان قابل للتطوير .
نحن يا عزيزتي نتاج الظرف والبيئة , فلم نختر أسماءنا , ولم نختر آبائنا , ولم نختر محيطنا وناسنا , وبالتالي سنكون نتاج لهذا المحيط ويبقى حظنا في كيفية تشكيل تفكيرنا ووعينا , فأن حالفنا الحظ في القليل من الوعي علينا ان نستثمره ومن خلاله نستطيع ان ندير الكفة لصالحنا ونوجه ظرفنا ونغيّره لما فيه الخير لنا وللمحيطين بنا , وكلما أزداد وعينا كلما تجردنا من أنانيتنا ومخاوفنا ,فالطبيعة متغيرة حسب مفاهيم المجتمع وقد تدخّل المجتمع في تلك الطبائع رغماً عن إنها سيان سواء للأنثى أو للذكر والعقل أيضا سيان .
كذلك لا يوجد شيء اسمه قد فات الأوان يجعلنا مستمرين على اختيار خاطئ , فالاستمرار بالخطأ هو خطأنا الأكبر ,وأن كان ولابد فأن الأوان قد حان لتصحيح الخطأ لا الاستمرار عليه , وما الحياة سوى تجارب تزيدنا قوة لا ضعفا , والخلاص يرنو لكِ بهدم تلك البناية التي بنيتيها على أساس معوج وهش ,فلا تتوهمي بالخلاص في تحملكِ وصبركِ هذا ,فهو ضياع للوقت الذي سيكلفكِ سنوات أكثر وليس هناك أغلى من سنواتنا , طلاقكِ هو الحل طالما استنفذتِ كل الطرق .
نطقتُ هذه الكلمة المحرّمة بعد أن استنفذتُ جميع الحلول لها, فأنا أفسرها على أنها تعني التحرر من القيود التي فرضها الزوج والقانون عليها ,وهي صارت تراها بالنظرة السائدة لمحيطها كدعوة للانحلال والفجور بعد أن ارتبطت كلمة الحرية مع عقولهم بالجسد و بعد أن تشربت من أفكار الاستسلام والقسمة والنصيب التي لا مفر منهما .
-.الأمومة …رغم أني اكتشفت بأنها مجرد وهم لا تزيد المرأة قوة بل تكبيلا وقيودا ولكنها كلمة مقدسة وكانت تمثل لي حلم جميل, أما الآن وقد وقع الفأس بالرأس وفات الأوان فلا أريد أن أصدق بغيرها كونها تمثل حياة المرأة وطمأنينتها ,وعليه لا أريد أن أخسر كنز القناعة فهذا الشيء الوحيد الذي تعلمته وكسبته من حياتي الجديدة, القناعة التي تبعث في نفسي الطمأنينة .
-. أنتِ تعيشين في غفوة عميقة لأنكِ أدمنتِ هذا ,كمن تعوّد أن ينام وسط الضوضاء فصارت لا تعنيه الضوضاء أثناء نومه بعد أن أدمنها وتعوّد على أن لا ينام ألا معها ولا يصحو إلا بها , وأن أردنا أن نوقظه من تلك الغفوة فما علينا إلا بصوتٍ أعلى من تلك الضوضاء وبصراخ اقوي , هذه الغفوة عزيزتي هي غفوة العقل الذي أدمن أفكاره , أدمن على فكرة التمايز دون أن يُعير أي اعتبار للإنسانية , الإنسانية هذه الكلمة الجميلة التي بدأ في ان تفقد معناها وأبعداها الحقيقية شيئاً فشيء بعد ان شوهناها وحددناها على أساس الجنس والطبقة والمذهب والكثير من المفاضلات فيها .
-. هذا ما ألفناه وتعودنا عليه منذ زمن أمهاتنا وأجدادنا وأني قد توصلت إلى فكرة أن الأنثى واجبها الصبر والتحمل ,فهذه هي الأنوثة الحقيقية التي عرفناها حيث كلما شعرت الأنثى بنقصانها عن زوجها بدرجة أو أكثر منها ازدادت شعورا بأنوثتها وأزداد هو أحساسا برجولته وهذا ما نبتغيه ,الشعور بالفارق الجنسي بينهما , وبعكسه فلا لذة تبقى لدينا بعد أن تنتهي الفوارق ويكون الناس سواء.
-. اللذة ستكبر عندما يكبر الحب , ولكننا تعلّمنا بأن الضعف هو رمزا للأنوثة ولكن الحقيقة الضعف لا يعطيها قوة بل يجعلها مجرد جارية مستسلمة لأفكار بالية , القوة لا تأتي من هذه العبودية عزيزتي ولا من هذا اللف والدوران كما أنتِ فاعلة , والنتيجة شكواكِ المستمرة هذه والتي تبرهن على انكِ لا زلت تحملين رائحة الإنسان بداخلكِ , القوة تأتي من نبذ كل ما هو مألوف ونقده ومحاولة إثبات انه لم يعد صالحا لنا ,مستندين بذلك على الحجة والبرهان ,ثم أين الكرامة من كل هذا؟
أجبتها مغالبة حالة النفور من كلامها الذي يعتريه الضعف والاستسلام
-. لا كرامة بين الأزواج , وتسقط الآداب بين الأحباب.
-.الآداب لا تسقط إلا عند الأزواج الأنانيين ,وهل سقطت لديه ؟
هو يحاول أن يسقطها منكِ فقط ويبدأ بالبحث عن عشيقة له يبحث معها عن تلك الآداب الساقطة التي افتقدها معكِ. والكرامة والقناعات ماذا عنها ؟ هل صارت مجرد كماليات نتجمل بها عند الحاجة
-. مهما بحث ومهما دار فهو سيلف ويلف ويرجع لي دون أن يعتريه أي نقص , ولا تنسي عزيزتي هو رجل ولا يعيبه شيء .
قالت جملتها بكل فخرا واعتزاز بعد أن بدأت السخونة تشتد وتصعد لرأسها بفعل الحقيقة التي تريد ان تغفلها مجبرة ,وكأنها صارت تفخر بضعفها الذي يقرّبها من الأنوثة ومن تلك الأنثى الحلم ذات المواصفات التي عرفتها .. أنثى بحق !!
-. كيف لا يعيب الرجل شيء وهو من حمّله المجتمع المسؤولية الأكبر وأعطاه الحقوق الأكثر , سينقص منه الكثير وستنقصين أنت أيضا بنظره
-. كرامتي محفوظة ولن يصيبها أي خدش طالما أعيش بأمان فلا خوف يعتريني من وحوش الغاب ولا ذئاب الشارع , أما القناعات فمن الممكن ان نتنازل عن بعضها أو حتى جميعها فلم تعد مجدية بعد ان حصلت على استقراري ووضعت حملي على الزوج.
-. ان تلغي قناعاتك معنى هذا ان تلغي كيانك ووجودك , وسيكون استقراركِ شبيه باستقرار الموتى.
-. وجودي صار مرهون بوجوده فلا يهم ان كنت موجودة أو غير موجودة فما أبغيه هو سكن لائق وأطفال يملئون حياتي بهجة وكذلك احتياجي من الطعام هو من يوفره لي فماذا أريد وماذا أطلب بعد .
-. هل هذا ما تبتغيه فعلا ؟ وهل أنتِ على قيد هذه الحياة ,برهبتها وبحجمها الواسع والتي اختُزلت لديكِ بسكنٍ لائقٍ وبأبناء وزوج , فلا يعني لكِ من كل هذا سوى مجال أضيق من هذا الخرم نسبة لها والذي لا يتعدى قطرة ماء من محيطها ؟
إنها عبودية الخوف عزيزتي الذي يتغذى وينمو بهذا الحصار ,فنحن نخاف من أن لا نخاف وكأن الخوف يحمينا ويجنبنا أقدرانا .
أجبتها وأنا أضع فنجاني على المنضدة بعد ان أفرغت محتواه لتهرع هي وتقلبه رغبة منها في قراءة المجهول .
ففكرتُ مع نفسي بهذا المجهول الذي تبغي قراءته بفنجانٍ لُصِقت به بقايا البن !! وكيف تبغي من حاستها في أن تستشعر المجهول وهي راقدة بين هذه الجدران التي حدّت من جميع حواسها بما فيها حاستها السابعة , تلك الحاسة التي تحتاج للكثير جعلت من الغالبية في ان تترك جميع حواسها وتهتم بحاستها السابعة فقط ظناً منهم التي تحتاج لأن نفتح لها جميع حواسنا
بعض من المجهول صار شبه مقروءٌ لي دون الاستعانة بفنجان .
وآه لو تعرف بهذا المجهول وكيف يكون خلاصها النهائي , فعليها ان تترك رغبات المحيط وتترك هذا الاستقرار المزيف لأجل استقرارها الحقيقي , ترك شيء تافه لأجل شيء حقيقي , وترك رغبات الآخرين لأجل رغباتها هي , ولأجل أن لا تعيش الحياة التي أعدت لها سلفا من قبل محيطها , لكن هل بقيّ لها رغبات ؟ وهل هي موجودة الآن؟
تأملتُ هذا المجال الضيق التي تسير به حياتها , وكيف أختلط حابلها بنابلها وتاهت بدوامة التنظيف المبالغ به وببقية الأعمال ,لتشعرها كل يوم بنقصانها فتحاول أن تملي ذلك النقص وتعوض به من خلال تلك الدائرة التي صارت تلف بها وتدور ومن ثم ترجعها لنفس ما كانت عليه قبل دورانها .
هكذا فكرتُ بعد أن ألقيت نظرة سريعة متأملة حولي ,الأشياء المرتبة بعناية فائقة , والبيت نظيفاً وخالياً من أي كتاب .
حدثتُ نفسي قائلة : إنها بطلة في صبرها الذي يحاكي صبر الأموات , وبطلة في تحملها وكأنها هي المذنبة ..
ملاحظة : ضمير الأنا لا علاقة له بالكاتبة