الوقت اقترب من الغروب ، وتوارت الشمس خلف الجبل ،وأنا لا أريد ان ينتهي اليوم فقد إختطفته من قبضة الزمان بصعوبة، عملي المكثف مؤخرا وتراكم المشاكل والارهاق الشديد كلها عوامل دفعتنى لكي أقتنص يوما من رصيد إجازاتي الذى لا أظن اني سوف اعيش حتى أستنفذه ، سافرت وحيدة الى العين السخنة لأجلس أمام صفحة البحر الزرقاء فى أحد المطاعم التى تقدم الأسماك ، أراقب السفن البعيدة فى تسللها الهادئ عند التقاء خط الأفق مع المياه الزرقاء ، وأنصت لصوت الصمت وتلاطم المياه فوق الصخور ورفرفة الطيور وكركرة بعض اليخوت فى الميناء المتاخم للمطعم .
شعور الاسترخاء أزاح الكثير من الهموم، ولكن كاد أن ينسيني أني حتما يجب ان أبدأ رحلتي إلى القاهرة حتى لا يتأخر بي الوقت وخاصة أني سوف أقود السيارة منفردة ولم تعد الطرق آمنة كسابق عهدها. أخيرا نهضت ، ألقيت نظرة أخيرة على الأفق الرحب ، ثم تحركت.
سلكت الطريق الملتوي كالثعبان المحاذي للبحر والملتف حول الجبل والذي عندما إنتهى ، مسحت ببصري الأفق الذى سوف أدير له ظهري بعد عدة دقائق متجهة لليسار حيث أول الطريق السريع الى القاهرة.
بعد إجتياز البوابات أطلقت العنان للسيارة وأدرت جهاز تشغيل الاسطوانات ، سيمفونية العالم الجديد “لديفورجاك ” التى اعشقها، فهي تلهمني ، وتملأني بالحماسة والتوقع والتفاؤل، بالاضافة الى أني أريد أن أظل يقظة طوال الطريق حيث تبدأ سيارات النقل رحلاتها من بعد الغروب وحتى الفجر، وهذه النوعية من السيارات الضخمة سائقيها عادة ما يتعاطون المخدرات ومزاحهم ثقيل.
أرخى الليل سدُلــَه ـ كما يقول الشاعر ـ تدريجيا ولم اعد أتبين سوى أسفلت الطريق والعلامات الارشادية والكيلومترية التى تظهر متعاقبة بفضل سقوط ضوء السيارة عليها وكانها تنبثق من الأرض ثم تندفع مسرعة للخلف، تركت الزجاج مفتوحا فلفحت وجهي نسمات الليل الباردة المنعشة، التي استدعت بدورها ذكريات رحلات مماثلة مع الأصدقاء يوم أن كانت حياتي تمتلئ بهم.
كانت أضواء السيارات القادمة من الاتجاه المضاد قد تباعدت ثم إختفت أضواؤها بسبب الاتساع التدريجي للجزيرة الوسطية الصحراوية ، ومع الإظلام الثقيل والبرودة الخفيفة سرت بجسدي قشعريرة وانتابتني رهبة لبعض الوقت ، صرفتها بأن ضغطت على مؤشر الصوت لأرفعه أكثر مع بداية الحركة الرابعة من السيمفونية ، ومع قوة الايقاع التى تميِّز هذه الحركة بدأت أنفعل مع الموسيقى بشدة ، وأغني اللحن وألوح بيدي في الهواء كما لو كنت المايسترو شخصيا ، فأنا أحفظ اللحن من تكرار سماعي له ، أنساني هذا لدقائق شعوري بالخوف .. وبَّخت نفسي لأني لم أصطحب أحدا معي إلى هذا المكان الرائع.
فى الحقيقة كنت أحتاج لأن أخلو إلى نفسي فانا اواجه العديد من الأمور المُحبـِطة فى الفترة الأخيرة ولا أجد صديقا عاقلا أتحدث إليه، كما أني أصبحت لا أجد فى نفسي الرغبة فى الحديث بالذات عما يزعجني أو يحزنني، فلدى كل إنسان ما يكفيه من أعباء والكل غارقٌ فى خضم مشاكلِه حد العنق، لم يعد هناك من له القدرة على الإنصات، كما أن ثرثرة الناس باتت تزعجني فقررت الهروب من كل شيئ ، العمل ، الناس ، الزحام ، الغبار، الضوضاء وأخبار السياسة.
خفضت صوت الموسيقى لشكـِّي أني سمعت صوتا غريبا يشبه طنين النحل مر بجوار أذني، للحظة تصورت أن الاسطوانة المدمجة خُدِشَت من كثرة الاستعمال، أو أن هناك حشرة دخلت من شباك السيارة المفتوح، أدرت مفتاح ضوء الصالون وسحبت الاسطوانة تفحصتها فوجدتها سليمة فأعدتها لمكانها ، وفتحت نافذتي السيارة الأماميتين تماما لكي تخرج إذا كانت هناك حشرة .. ثم لم ألحظ شيئا فأغلقت النوافذ وأغلقت مفتاح الضوء.. وعدت للموسيقى من جديد.
ومض جسم صغير أمام زجاج السيارة ففكرت أنها إحدى السيارات المقابلة لكن أفقت أني فى نقطة على الطريق حيث الجزيرة الوسطى عريضة ولم يكن هذا ضوء سيارة قادمة !!
تجاهلت الصوت وتجاهلت الضوء إلى أن ومض مرة أخرى مصحوبا بصوت الطنين ، هنا شعرت بالقلق وبأن الاثنان مرتبطان وأكيد هناك شيئا غريبا يحدث فى المنطقة ، همست لنفسي :
– ممكن تكون تجارب للجيش ..!! الطريق ده مليان مناطق عسكرية.
تكرر الأمر ولم تعد مجرد ومضة بل ظهر فى الأفق حلقات من الضوء الأحمر تتعاقب بانتظام وبات الطريق بما عليه من مركبات وكأنه يخترق تلك الحلقات، ثم ظهر فجأة ضوء مبهر استمر لثواني فى مركز هذه الحلقات ونهاية الطريق والسيارة متجهة نحوه مسرعة دون إرادة مني، كان ساطعا لدرجة انه أفقدني البصر لحظيا ، صرخت وأفقت فضغطت على المكابح تلقائيا لتصوري أن هذا الضوء يقترب وانه سوف يحطم الزجاج.
عاد كل شئ كما كان واختفت الحلقات والضوء والأصوات ، أسرعت رغم علمي أن السرعة على هذا الطريق مراقبة بالرادار، ولكن الخوف دفعني لأن أسرع حتى أصل لمشارف القاهرة حيث الضوضاء والزحام والبشر والمؤانسة.
إرتطم شيئ بالسيارة خمنت أنه جسم لدن، وتصورت أني صدمت ثعلبا أو شيئا من هذا القبيل، إرتبكت بشدة وتسارعت دقات قلبي وإذا بظل أسود ضخم يظهر ويقف على البعد فاتحا ساقيه الطويلتين أمام السيارة، لوهلة شككت انه أحد الكباري الجديدة تحت الانشاء والتى لم ألحظها فى طريق ذهابي للعين السخنة هذا الصباح، فقد كانت هناك أضواء تومض ، تضئ ثم تنطفئ على هذين الساقين المغلفين بغطاء من المعدن الفضي، ومع إقترابي تبينت أنهما عمودان فضيان أسطوانيان بضخامة، يسافران الى أعلي ولا يمكن إدراك النهايات بالعين أما الظل الثقيل الأسود فلا زال بعيدا شاخصا ونحن المسافرين على الطريق جميعا داخل سياراتنا متجهين نحوه.
إعتبرت أني محظوظة حين ولجت من بين العمودين الفضيين فقد كانت هناك سيارات تتصادم وتخرج من الطريق حيث الصحراء المظلمة، وتبدو أضواء السيارات الحمراء داخل الصحراء كعيون شيطانية متناثرة هنا وهناك..من شدة خوفي لم أكن أرغب فى معرفة ماهية ما يحدث فانا من المؤمنين بالقول الشهير “الفضول قتل القطة ” ، فلم أكن أنوي الوقوف لكي أتبين ما الذى حدث وخصوصا أنه قد مضى الكثير من الوقت الذى لا أستطيع أن أقدره .. همست لنفسي :
– لماذا الخوف ؟ اللعنة على أساطير الآباء والأجداد، زرعت بداخلنا خوف من أوهام لا مبرر لها، الصحراء الخالية والوحوش التى ينسجها خيالنا بسبب خوفنا من الظلام .. وإرتباط كل هذا بخرافات ومجهول هو عدو متربص دوما.
تباطأت السيارة فجأة دون أى إرادة مني، ثم أخذت ترتفع عن الأرض بهدوء وببطئ ثم توقفت تماما وأصدرت صوتا وكأنها تستعد للانطلاق ، ثم بدات فى الصعود بسرعة جنونية وانا فى حالة من الذهول والرعب .. خارت اعصابي تماما وتركت المُقــَوِّد، بدأت السيارة تدور فى الفضاء حول نفسها وأنا اخشى لحظة السقوط فوضعت ذراعيَّ على رأسي لأخبئها فى حال إصدمت السيارة بالارض مجددا وإنكمشت ساقاي على جسدي تاركة دواسة الوقود ، لكن السيارة لم تسقط بل ظلت تدور دورات واسعة كمركبة فضاء ضاعت خارج الغلاف الجوي.
حين طالت المدة ولم يحدث إرتطام بالأرض، رفعت ذراعاي لأتبين أين أنا، فلقد أصبحت لا أشعر بجسدي أو وزنه ، بات خفيفا كريشة ، وحتى السيارة لم يعد لها وزن فهي الأخرى تلف فى دوائر واسعة من الضياع فى فراغ مظلم لا حدود له.. لا أعرف ما الذى حدث وهل أنا وحدي او هناك آخرون غيرى !!
لم أعد ادرك كم مر من الوقت ، بدأت أتساءل هل أنا مُتّ الآن ؟ هل هذا هو الموت ؟ خواء وإنعدام وزن وضياع ثم لا شئ ؟ وما الفرق بين الموت الذي عرفه الناس والذي يتصورون أن يليه بعث من جديد وبين ما أنا فيه الآن فالصلة مقطوعة بيني وبين أيا من كان، من الجائز أن هذا هو البعث.. ولكن أين النار والجنة والمستقبلين ؟ واين من ماتوا معي في نفس اللحظة وأين من ماتوا قبلي ؟ أين أمي وأبي ، ما هذا الخواء ؟ ألا يوجد من يصحبني إلى حيث سأقيم للأبد ؟ لا ملائكة ولا شياطين ولا جنة ولا نار ولا صراط مستقيم ، مؤكد هذا ليس الموت .. كنت خائفة الى أقصى درجة وحلقي شديد الجفاف والعطش يتلف ما تبقى لديَّ من أعصاب .. لمحت ضوءً أبيضا فى إحدى دورات السيارة ضوء مخنوق وكأن ضبابا يلفه ، لكن لم أعرف مصدره فالسيارة تدور ولم أكن ألمحه فى كل دورة ، إذ أنها كانت تدور كما لو كانت تلف حبلا حول كرة أى أنها لا تدور فى نفس المسار مع كل لفة.
إقتربت السيارة من مصدر الضوء، وتبينت أخيرا بوابة ضخمة ينبثق منها الضوء الضبابي وسط هوَّة عتمة سحيقة. أمام تلك البوابة مباشرة توقفت السيارة على سطح أفقي أخيرا.. فلم يسعني سوى أن أفتح الباب وأخرج مسرعة وانا أتنفس الصعداء أن اخيرا سكنت الحركة ولكن لازلت خائفة وترتعد كل فرائصي ويتدفق عرق غزيز من جبهتي وتلف ساقاي إحداها حول الأخرى.
سرت متجه نحو الضوء الذى يغلفه ضباب ثقيل لدرجة تمنع رؤيتي لما وراء البوابة، فمددت يدي أمامي خوفا من ان أصطدم بشيئ، صوت الطنين بدأ يصدر مرة أخرى ولكن كأنه يصدر من إجسام متعددة ، وتمر كلها بجوار أذنيَّ متتابعة بسرعة مذهلة إلى ان أصبحوا صوتا واحدا مرتفعا إلى درجة أني جثوت على ركبتي محيطة أذنيَّ ورأسي بذراعي.. ثم توقف تماما وعاد الصمت المطبق مرة أخرى. تساءلت وسالت دموعي :
– أين انا ؟
– هل انا تهت وضاع مني الطريق ؟ ما الخطأ الذ إرتكبته أثناء قيادتي للسيارة، لقد كنت أتبع العلامات الإرشادية جيدا ومصباح السيارة مضاء وأرى الدرب بوضوح ولم أحِد عنه مطلقا فى أي لحظة، ما الخطأ إذن !! لقد كنت ملتزمة بالسرعات المقررة .. كيف أصل إلى هنا مع أنني لم أرتكب أي خطأ..!!
كان الجو المحيط بي يزداد غموضا وبرودة كلما تعمقت بخطواتي داخل المكان، نظرت خلفي أتأكد ان البوابة لا تزال مفتوحة حتى أستطيع ان أهرب فى أي لحظة لو تعرضت لهجوم غير متوقع ، لكن للأسف لم أستطع تبين مكانها وغطاها الضباب الكثيف فلم اعرف إن كانت قد أغلِقــَت أم ضاعت أم انها لم تتواجد من الأصل على الاطلاق أو ربما كانت مجرد وهم في رأسي أو أمنية.
رفعت ياقة الجاكيت على أذني لأحتمي من البرد، استسلمت وسرت أتعرف على المكان الذى وجدت نفسي فيه والذى لازلت أراجع مع نفسي كل الطريق منذ بداية رحلتي إلى أن وصلت إليه حتى أتبين متى حدث الخطأ بالضبط ، لكن لم أستطع التذكر.
إصطدمت ساقي بشيئ كدت بسببه ان أنكفئ على وجهي وآلمتني ساقي بشدة ، إنحنيت لأدلكها ووضعت يدي على الشئ الذي تسبب فى تعثري وقربت وجهي منه وأخرجت زفيرا عميقا على سطحه لأزيح الضباب قليلا، فوجدته مجسما ذهبيا لآلة الجيتار ، فتحسست باقي المجسم بيدي فوجدته تمثالا لشاب يضع جيتاره على الأرض، بصعوبة تبينت ملامحه ، لم أشعر بغربة نحو هذا الوجه بل أحسست أنه ربما يكون تمثال لشاب إلتقيت به من قبل.. ولكن أين !! لا اتذكر.
سمعت سعالا تلاه صوت سيدة نادت علي، توجهت نحو مصدر الصوت ببطئ وحذر ، وإذا بها أمي فارتعبت ، فأمي توفيت منذ مدة طويلة ومستحيل أن تكون هي نفسها ، مؤكد تشابه فقط ، لاحظت السيدة خوفي فقالت بحزن:
– لا تخافي ، فخوفك يقف حائلا بينك وبيني .
رددت بصوت خافت متسائلة :
– من أنتِ ؟
– أنا أمك .
– يعني أنا ميتة الآن ؟
– ليس لدي إجابة.
ورددت كلماتها الشهيرة :
– عاوزة تعرفي، إفتحي الكتاب وإقرأي.
– كتاب !! كتاب إيه دلوقتي يا أمي ؟ أجيب منين كتاب ؟ هو أنا عارفة أنا فين علشان أجيب كتاب وأقرأ ؟ يا أمي انا تهت.. ومش عارفة أنا فين .. وانتي تقولي لي كتاب !!
أخيرا ظهر وجهها ، وتبينت ملامحها الحبيبة ولكنها كانت تحتفظ فقط بما تميزت به هذه الملامح ، نظرة عتاب فى عينيها لم تتغير منذ أن وعيت.. أنفها الدقيق وأسنانها الكبيرة نسبيا والتي كانت تظهر مع إبتسامتها التى لم تبخل بها أبدا وحتى هذه اللحظة ، إبتَـسَمَت وقالت :
– ميت مرة أقولك ، المعلومات مش ممكن تثبت فى مخك طالما وصلتك بسهولة ، دوري عليها ولما تلاقيها مش ممكن تضيع منك تاني أبدا .
– يا أُمُي هو أنا داخلة إمتحان ؟ أنا عاوزة ……
وهنا قاطعتني بحدة وبصوت مرتفع للغاية وقالت :
– أيوة إمتحان.
ثم إختفت .. صرخت فزعا من حدة صوتها وأيضا لإختفاءها المفاجئ كما اختفى معها أملي فى الحصول على مساعدة.. ناديت والدموع تتفجر من عيوني وشعور عارم بألم الفقد للمرة الثانية :
– ماما ..!!
سمعت رجع الصدى لصوتي ، إنتابني اليأس أحسست اني وحدي فى هذا المكان الموحش الغريب وإزداد شعوري بالعطش، أما الضباب فعلى غير توقع بدأ ينقشع قليلا بحيث تبينت المقعد الذى كانت تجلس عليه أمُي خاويا ما عدا من نظارتها ، حدثت نفسي ماذا ستفعل يا ترى بدون نظارتها ..!! لقد كانت تعشق القراءة والان لن تستطيع ان تمارس هوايتها بدون النظارات . توجهت نحو المقعد ومددت يدي لأحتفظ بها ولكن قبضت على خواء فلقد اختفت النظارات. فى تلك اللحظة تبينت كفاي بوضوح إحداهما قد شاخت وجفت وتجعد جلدها تماما كعجوز فى التسعين ، والكف الثانية كانت لشابة فى مقتبل العمر، ناعمة لينة كقطعة نحت جميلة، ، تساءلت :
– ماذا لو ان هذا هو حال جسدي بالكامل وليس كفي فحسب ..!!
لم أفهم ما هذا العالم الجنوني الذى دخلت فيه لكن ومع ذلك داخلني شعور أن كل هذا شئ مؤقت ولن يستمر ومؤكد سينتهي عما قريب.
سمعت وقع خافت لخطوات شخص يعدو بالقرب مني ثم إبتعد،إنتفض جسدي لأني شعرت باندفاع الهواء بسبب عدوِهِ بجواري دون أن أراه فالضباب لم ينقشع تماما بعد، تلاه وقع أقدام لعدد كبير من الناس، يبدو أنهم يرتدون أحذية ثقيلة، تضرب الأرض بقوة وانتظام ولا أراهم أيضا، وعلى عكس خطوات العدّاء فخطواتهم تقترب نحوي يعزفون على آلات نحاسية لحنا أعرفه، ولكن عزفهم صاخب لدرجة لا تحتمل وفيه الكثير من النشاز، شممت رائحة غبار وبارود، حاولت ان أبتعد قليلا عن الصوت حيث أنه على مايبدو عددهم كبير وخشيت أن يسحقوني تحت أقدامهم.
سرت متقدمة نحو الضوء والضباب ينقشع رويدا رويدا إلى أن وجدت نفسي فى سرادق من هذا النوع الذى يستخدم لمراسم العزاء والضوء المبهر يعلو كرسي ضخم مذهب كالذي يجلس عليه المقرئ فارغ لا يجلس عليه أحد، صوت الفرقة النحاسية لازال يأتيني من بعيد، نعم إتضح اللحن الآن ، إنهم يعزفون أغنية شعبية لمطرب أعرفه جيدا لكن لا يحضرني إسمه الآن ، إنهم يعزفون أغنيته الشهيرة ” فى إيديا المسامير .. وفى قلبي المسامير ” بإيقاع يشبه إيقاع الأغاني الوطنية كما أنهم يغنونها بطريقة فناني الأوبرا، إذ تبرز الأصوات السوبرانو والتينور وغيرها من الأصوات لكن كانت هناك ضحكة رقيعة بصوت رنان تقطع كل الأصوات وتطغى عليها دون خجل أكدت لي أني سوف أفقد عقلي إن لم أخرج فورا من هذا المكان المجنون .. لابد ان أجد البوابة حيث تقف سيارتي ، يجب أن أهرب حتى ولو بلا هدف .. للضياع فى الفضاء الواسع.
حين أوشكت على ترك المكان والسير الى حيث جئت وكلي رجاء أن أجد البوابة لأخرج .. ظهر رجل قصير لدرجة ملحوظة، بلا وجه ، رأسه خالي من الملامح وجمجمته مدببة قليلا وتشبه البيضة، بشرته رمادية تميل للأزرق، يحمل عصا على كتفه ويعلق فيها حقيبة شفافة يوجد بها وجوه كثيرة يتداخل بعضها ببعض كما لو كانت مصنوعة من العجين، تقدم نحو الكرسي المذهب وقفز على درجة خشبية أسفله ترتفع عن الأرض بحوالى النصف متر ثم وضع عصاته المعلق بها حقيبة الوجوه على الأرض وكأنه يغرس وتدا، وتعلق بها وتسلقها إلى ان وصل إلى قاعدة الكرسي وجلس عليه، صار شكله غريبا فقدماه لا تصل إلى الأرض، ولا وجه له، إلتقط الحقيبة الشفافة وفتحها وظل يقلب فيها إلى أن إستقرت يده على أحد الوجوه فسحبه من الحقيبة ووضعه على الوجه الخالي من الملامح، فإذا به وجه رجل كبير العمر ذو لحية وشارب أشيبين، وبمجرد ان إلتصق القناع بالوجه الخالي رفع يده مشيرا نحوي وأصدر صوتا كالفحيح !! وبدأت عيناه تلمعان ببريق كبريق الماس، فارتعبت من هذا الشئ الذى راقبته منذ لحظة ظهوره إلى ان جلس على الكرسي.. ولا أعرف لماذا يشير نحوي ، حين استدرت لأفر هاربة صرخ صرخة عظيمة مرعبة ظل صداها يتردد لمدة تزيد عن المعتاد ، كدت أن يغشي علي من فرط الرعب ، وتسمرت قدماي فى الأرض وفشلت فى الهروب، فساقاي لا تقويان على الحركة.
إستدرت لأواجهه وقلت بصوت مرتعش :
– من أنت ؟
رد بصوته الغريب :
– أنا جدك الطيب
أنكرت بغضب قائلة:
– لست جدي ولا حتى تشبهه .. وقد رأيت وجهك الخالي من الملامح قبل أن ترتدي القناع ..ثم ان جدي مات منذ زمن طويل.
رد بهدوء ولمعت الماستان وعكستا ضوء المكان :
– جدك فى العالم الافتراضي .. هذا دوري ويجب أن تتكيفي مع هذا الوضع.
سألته بحزن :
– إذن هذه السيدة لم تكن أمي ..!! هي مجرد سيدة تقوم بدور مقدر لها ؟
أومأ برأسه بالايجاب وقال :
– نعم .. ليست أمك.
رددت بلهفة :
– لكنها حدثتني بكلمات كانت لأمي أثناء حياتها.
ضحك ضحكة رقيعة كالتى كانت تصدر أثناء الأغنية الشعبية وقال :
– إنه دور مكتوب وهي فقط تؤديه بإتقان.
لم يكن مني إلا أن سالت دموع حارقة من مآقي، فقد تعلقت بأمل ان أراها مجددا قبل أن أغادر.. لكن للأسف ، أيقظني هذا المسخ على حقيقة لم أكن أتوقعها.
نظرت حولي باحثة عن البوابة فنادى علي وكأنه قرأ أفكاري وعرف عما أبحث ثم قال :
– ليس مقدرا ان تخرجي الآن.. هناك دورا عليكي القيام به .
نظرت له نظرة استنكار وتساءلت :
– دور ؟ دور إيه ؟ أنا لن أبقى ولا دقيقة ، انا لي بيت وزوج وعمل وحياة كاملة يجب ان أعود إليها.
فقاطعني قائلا :
– ليس مقدرا .
– ليس مقدرا
– ليس مقدرا
تلفت بحثا عن البوابة اللعينة، لا أراها رغم إنقشاع الضباب بالكامل وإتضاح الرؤية تماما ، صمتت الموسيقى، واختفى العدّاء وذوي الأحذية الثقيلة … أغمضت عينيَّ حتى لا أرى هذا المكان الموحش، وجثوت على ركبتي فوق الأرض يأسا وقد أُنُهِكَت قواي تماما.