علي العائد: موقع 24:الثلاثاء 22 مارس 2016
كان ينبغي أن تنهض الثورة السورية قبل نحو 30 سنة. كل شيء وقتها كان يشير إلى أن الثورة آتية، فالمجتمع بدأ يتفسخ بفعل فاعل، والجيش أصبح مخفراً لحراسة الحاكم، والمدارس والمشافي والجامعات كمٌّ لا يعكس النوعية المطلوبة حتى بين خريجي الجامعات.
كانت الأحوال تسوء بالدرجة المطلوبة، أو أكثر، التي أرادها ماركس لألمانيا، وعمالها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكن الثورة لم تقم في ألمانيا، ولم تقم في سوريا بسبب سوء توزيع الدخل.
لندع ألمانيا، التي تحققت ثورتها بعد حربين عالميتين، وثمن فادح، فسوريا حتى بعد أن بدأت ثورتها في ربيع 2011، كان أكثر المتفائلين يشك أنها ستستمر شهراً، وبعد شهرين كان الحديث عن معجزة، وبعد سبعة أشهر انفلت السلاح من عقاله بعد أن فقد الجيش الحر الأمل في جدوى استمراره مجرد حام للمتظاهرين.
لو قامت الثورة قبل ثلاثين سنة، لما طرح مثقفان كبيران، حقاً، كجورج طرابيشي، رحمه الله، وأدونيس، أمد الله في عمره، مقولة: وجوب تقدم المجتمع شرطاً لتغيير سياسي ثوري. أدونيس تفاءل بالثورة الإيرانية، وامتدحها. ولو قامت الثورة السورية في تاريخ قريب من الثورة الإيرانية، أو قبلها حتى، ربما اعتبرها أدونيس معجزة، حتى لو خرج المتظاهرون من الجوامع.
أما جورج طرابيشي الذي سكت عن الكتابة منذ 2011، وهو يرى حال البلد تسير إلى هاوية، فكتب في موقع “الأثير” (23 شباط 2015): “حالي كحال بلدي: في أسوأ حال. وأنا مشلول تماماً عن الكتابة”.
يروي طرابيشي، في المقال المذكور، مبررات سكوته، مستطرداً إلى حوادث من بداية خمسينيات القرن الماضي، وما بعد؛ كيف حضر في الثانوية أول درس ديني إسلامي بعد أن حقق تحالف الأخوان المسلمين والبعث والشيوعيين أمنية الأخوان بإدخال التعليم الديني في المدارس الثانوية. كان الدرس “كل من هو ليس بمسلم فهو عدو للإسلام”، ولما فتح المدرس المعمم باب الأسئلة عَرَّف الراوي بنفسه “اسمي جورج طرابيشي”.
يعلق طرابيشي على هذه الحادثة “ابتداء من تلك اللحظة، وعيت أن مهمة كبيرة جداً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا، وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولاً، وربما أخيراً، قضية تغيير على صعيد العقليات”.
ظرفياً، كلام الرجلين على وجوب قيام الثورة من داخل المجتمع كلام حقيقي؛ فالثورة تبدأ في عقل كل فرد منا، على القيم والأخلاقيات العامة، وعلى مفهوم الدين والأديان والأعراق. لكن العودة إلى الوراء أربعين سنة من الآن، والنظر إلى حال المجتمع السوري آنذاك، في تعليمه، وصحته، وأخلاقه العامة، ووضع المرأة فيه، تنسف المقولة من جذورها.
صحيح أن عدد المستشفيات كان أقل، كذلك المدارس والجامعات، لكن الأخلاق العامة في الشارع والوظيفة والمدرسة كانت بخير، قبل أن تفسد بفعل غياب السياسة العامة والقانون العام، وتعطيل قاعدة عمومية القوانين من قبل أدوات الحاكم.
ا
لسياسة ماتت في سوريا ليحيا الحاكم الأوحد، وكان لابد لتحقيق ذلك من خنق آخر الأصوات السياسية بإيداعها دون محاكمة في المعتقلات، وكان لابد من تجويع الناس، وجعل همهم الشاغل هو لقمة العيش، وسد سبل الرزق الحلال أمامهم؛ كان شبح الرشوة والارتزاق قد دخل حياة السوريين، كذلك السطو على المال العام والمال الخاص، ثم برزت ظاهرة “الفهلوة” حسب المصطلح المصري. ومن يسرق، يكذب، وعندها وداعاً لجوهر الأخلاق.
بالطبع، الاستثناء من هذا من الكثرة بحيث يمكن أن يكون قاعدة، لكن الظاهرة استشرت، فتطور المجتمع عكسياً، أو ارتكاسياً.
حرية المرأة تراجعت رغم تغني أحدهم أن أخته في عهد بشار الأسد كانت تعود إلى البيت في الثالثة فجراً بكل أمان! والتعليم المجاني في كل مراحله أنتج جحافل من الخريجين غير المتمكنين في جامعات تنتشر الرشوة بين أساتذة جامعاتها. مجتمعنا الذي كان يشكو من أمراضه في ذلك الوقت، ويتقدم ببطء، هو نفسه الذي نتغنى به الآن، قبل أن يفسده الدكتاتور.
قد تكون الفكرة غريبة، وقد يرى كثيرون أن فيها تحاملاً. وهنالك من سيقول إن الثورة عدلت الموازين. ليس في الأمر مبالغة، ولم تمحُ الثورة آثار إفساد الدكتاتور، وسيلزمها وقت قد يطول حتى تتمكن من الهدم ومن ثم البناء.
لامس كلام أدونيس العموميات والنتائج، دون المقدمات، وبنى مقولته على “خروج المظاهرات من الجوامع”. العموميات لا خلاف عليها، لولا أن المتظاهرين المسيحيين كانوا يخرجون من الجوامع أيضاً، ولو خرجوا من الكنيسة لما اختلف الأمر.
للتذكير، المرحوم محمد سعيد رمضان البوطي أخذ على المتظاهرين خروجهم من أمام الجامع دون أن يدخلوه ليصلوا!
مركزية العقل الديني التي يتكلم عليها أدونيس حقيقية، ولا خلاف أنها لا يمكن أن تنتج مجتمعاً أفراده أحراراً ومتساوين، والمرأة فيه إنسان كامل الحقوق والأهلية، بما هي إنسان وبغض النظر عن الجنس.
كذلك، كان يرى طرابيشي، وبشكل مبكر جداً، منذ مراهقته، الدور المثبط للتربية الدينية في إغلاق سبل التواصل بين السوريين المنتمين إلى مذاهب وأديان مختلفة.
الفكرة النقيض لطرابيشي، وأدونيس، هي أن الدكتاتور، حافظ الأسد ووريثه، قضى على فرص تقدم المجتمع السوري حتى بوتيرة بطيئة، فالشغل الشاغل لكل منهما كان الإفساد حتى يحكم إلى الأبد، وفي أربعين سنة من الجهد الدؤوب للأب والابن بدأ المجتمع يفقد إمكانية تلمس طريقة ليتطور بآلياته الذاتية، أو بآليات قوة الحياة.
كيف لسلطة ترى في محل للفلافل مؤسسة معادية، بحيث يجب أن يخضع صاحبها لاختبار ولاء قبل أن يفتتح محله، كيف لها أن تدع المجتمع يتنفس. وكيف للمجتمع أن يتطور ما دامت الجمعيات والأحزاب تخضع لسلطة الأمن قبل كل شيء، وليس لسلطة القانون، أو الأنظمة الإدارية التي تراقب حسابات الجمعيات كي لا يدخلها الفساد، أو تتلقى أموالاً مشبوهة، أو غير نظيفة.
روى لي سوري كان يقيم في مصر عام 2012 أن جاره المصري عندما تذوق “المكدوس”، سأله “هو إنتو كنتو تاكلوا ده قبل الثورة”، فرد عليه: نعم! فقال المصري: “أمال عملتو ثورة ليه؟”، فرد السوري بلهجة مصرية: “بشار كان عاوز يمنع المكدوس!”.
سمعت هذه الحادثة، وقرأتها، في نسخ عديدة، نسبة إلى مصر، والأردن، ولبنان، والسعودية، وغيرها، وتكاد نسخ الحادثة لطرافتها أن لا تكون حقيقية. الفيصل عند زميل مصري يحمل الماجستير في اختصاصه، حين بادرني في عام 2012: “إنتو عملتو ثورة ليه، الحاجة كانت عندكم رخيصة، كان لازمتها إيه الثورة!”.
انتهت الروايات الأربع عن الثورة السورية، وأسبابها، وخفايا المؤامرة فيها. ثمة رواية خامسة عبر سؤال طرحه أمامي صحافي سوري، وأجاب عليه بنفسه: ما سبب قيام الثورة في درعا دون غيرها؟ أجاب: الراحة! يقصد راحة الحلقوم التي تُشتهر درعا بصناعتها. والتفسير أن رامي مخلوف طمع بالاستحواذ على “معامل” الراحة، الرائجة في “كراجات الانطلاق” من دمشق نحو المحافظات، فأراد الاستيلاء على المعامل، فلم يقبل أصحاب هذه المعامل، فضغط عليهم الأمن، فتحركت الرابطة القبلية في درعا واصطدموا بالأمن واشتعلت الثورة.
أما عن “معامل الراحة” في درعا فهي عبارة عن “طنجرة” كبيرة وغاز في غرفة. يُطبخ في الطنجرة النشاء والماء والسكر لتصنيع الراحة السادة، وهي من النوع الرخيص والشعبي الذي يباع في الكراجات، وبقالات الأحياء الفقيرة.
المفهوم الأخير خارج السياق بالطبع، أو إضافي، كونه لا يمت إلى حكاية الثورة بصلة، ولا ينتمي حتى إلى تفسيرات الفئة الصامتة.
وربما ينتمي إلى فئة رابعة لم تتشكل بعد، كون الفئة الصامتة لا تزال صامتة، وستبقى.