جورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا: المصدر موقع صوت الترا
هل سمعتم بشهر المونة الشامي؟ حيث تنشغل الأسر في بلاد الشام بتحضير مونة الشتاء. يبدأ في منتصف أيلول/سبتمبر وينتهي في أول تشرين الثاني/نوفمبر، يصعب اليوم ومع الخراب الذي يحيط ببلاد الشام معرفة إلى أي حد يستمر هذا الطقس الذي توارثه الأبناء عن الآباء والأجداد، ولكن كان لهذا الفصل رائحته المميزة: المكدوس، الزيتون، الزيت، اللبنة المكورة، الكشك، ودبس الرمان، دبس البندورة، دبس الفليفة، والمربايات، والعصائر، والحبوب… إلخ.
تصعب اليوم، مع الخراب الذي يحيط ببلاد الشام، معرفة مدى استمرار طقس المونة الشامي المتوارث
هذا الشهر يحدد مستقبل السفرة الشامية وديمومتها: شنكليش، مكدوس، زيتون أخضر، زيتون أسود، زيت وزعتر، لبنة، جبنة، بيض مقلي أو مسلوق، بندورة، خيار، شاي.. من النادر أن يخلو بيت في بلاد الشام من هذه بعض هذه المأكولات مهما كان فقيرًا، فهذه الوجبة اعتاد على تناولها الناس في تلك البقعة من الأرض وتوارثوها عن أجدادهم.
اللافت أن هذا النمط الغذائي لا نراه في أوروبا ولا في أمريكا، ولا في أي مكان من العالم، ولكن قد نجده في بيوت السوريين أو اللبنانيين الذين انتقلوا للعيش في تلك الدول، فكثير منهم يصرف وقتًا لا بأس به عندما ينتقل للعيش في هذه الدول باحثًا عن المحلات التي تؤمن لهم مستلزمات إعادة تحضير مائدة إفطارهم اللذيدة التي تربوا عليها. ولعل الشنكليش والمكدوس يعد البصمة الغذائية التي تتميز بها “سفرة الإفطار الشامية” عن غيرها، وهو بوجوده مع باقي الأطباق يضفي نكهة خاصة مع رغيف الخبز الساخن وكأس الشاي..
الشنكليش
الشنكليش ينتمي إلى قائمة الألبان، يتم تحضيره بعد غلي اللبن وتقريشه ثم تنشيفه وتكويره على شكل أقراص وتركه ليتعفن، أو يمكن تناوله بعد أن ينشف القرص حسب الرغبة، وفي كل الحالات له طعم لذيذ ومحبب، عدا عن كونه طبقًا صحيًا قليل الدسم والسعارات الحرارية إلا في حالة خلطه مع الزبدة، وهو غني بالبوتاسيوم والكالسيوم وفيتامين B12.
كثيرا ما يشبّه الشنكليش من حيث الرائحة والطعم إلى حد ما بجبنة الروكفور الفرنسية “العفنة”، وهي واحدة من أقدم أنواع الجبنة في العالم والتي أظهرت دراسة بريطانية أنها السبب في تمتع الفرنسيين بصحة جيدة لاحتوائها على مضادات للالتهابات وخمائر ومكونات غذائية مقوية لجهاز المناعة.
نقل موقع “الباحثون السوريون” عن بحث مهم سوري ـ ألماني مشترك، أخضعوا خلاله المطبخ السوري للدراسة، حيث قام الباحثون بعزل بكتيريا حمض اللبن الموجودة في مخللات المطبخ السوري لتحديدها وتصنيفها، وشملت الدراسة الكشك والشنكليش والمكدوس، وقمر الدين، والزيتون.. وأظهرت النتائج وجود بكتيريا مشتركة بين معظم الأطعمة وأخرى خاصة ببعضها دون سواها، رغم أن بعض الأغذية نباتي وبعضها من المنتجات الحيوانية..
المكدوس
اللافت أن الأنواع البكتيرية التي تم عزلها من المكدوس تتبع لجنس العصيات اللبنيّة، وهذه البكتيريا تتواجد بشكل طبيعي في الجهاز الهضمي للإنسان وثدييات أخرى، وهي مفيدة وضرورية في العملية الهضمية، لكن ما يميز المكدوس ويعطي قيمة مضافة في السفرة الشامية هو أنه، إضافة لاشتراكه مع الشنكليش بجنس العصيات اللبنية، إلا أنه يتميز بتواجد بكتيريا
plantarum،
وهذه الخميرة هي التي تسهم في عملية “التمكدس” التخمرية.
السفرة الشامية غنية ببكتيريا حمض اللبن، سواء في المنتجات النباتية أو الحيوانية
من هذه الدراسة نعرف أن السفرة الشامية غنية ببكتيريا حمض اللبن، سواء بالمنتجات النباتية كالمكدوس والزيتون، أو بمنتجات الألبان والأجبان، إضافة إلى الخمائر، أي أنها سهلة الهضم ومفيدة للجسم ومناعته.
ما لفتني في الدراسة السابقة هو أن ما يجعل المكدوس طبقًا سوريًا بامتياز، ويمنحه طعمه الفريد بين الأطعمة العالمية هو أن الباذنجان الخاص لصنعه هو المشهور عالميًا بـ” الباذنجان الحمصي”، ومقابله الوحيد عالميًا يتواجد في إسبانيا المعروف بباذنجان منطقة
“Campo de Calatrava”
الذي ينتج منه “ألماغرو” المقابل الإسباني للمكدوس، حيث تتشابه إلى حد لا بأس به طريقة صنعه وطعمه.
زيت وزعتر
بالنسبة للزعتر والزيت أصبحت فوائده معروفة للكثيرين، فالزعتر من أشهر النباتات في بلدان حوض البحر المتوسط، وهو مقوي لجهاز المناعة ومفيد عند الإصابة بالعديد من أمراض الجهاز التنفسي، عدا عن فوائده في تخفيض الكولستيرول، وهو من العلاجات الفعالة في عالم “الطب البديل” الذي يعتمد على المنتجات النباتية، والطريف أن “صيدلية” الإفطار الشامي، وجدت حلًا لمشكلة يعاني منها الزعتر بكونه من النبات القابضة التي تؤدي للإمساك، وذلك بأكله مع زيت الزيتون، ما يؤدي إلى الاستفادة من فوائده كاملة فزيت الزيتون يعدل من طبيعته القابضة.
زيتون
أما الزيتون فهو معروف وله مكانته لدى كثير من شعوب الأرض، لاسيما دول حوض المتوسط ، ولكن لا نجده على قائمة “إفطارهم” اليومية كما هو الحال في بلاد الشام، فعدا عن مكانة الزيتون المقدسة، ودخوله حتى في طقوس العبادة المقدسة والصلوات لدى كافة الأديان فيها، نجده جزءًا رئيسًا في مكونات السفرة الشامية، وفوائده أكثر من أن تحصى في هذه العجالة.
لبنة وجبنة
طبق اللبنة الشامي الذي يرش عليها الزيت والنعنع والفليفلة الحمراء من الأطباق اللذيذة، وهو يسمي اللبن الذي تصنع منه اللبنة عند البدو بـ”الخاثر”، وطعمها لا يمكن وصفه، ولا بد من تذوقه ليكتشف الناس سر الطعم اللذيذ وراءه. فالجبن البلدي والعكاوي والجبنة المشللة والمالحة وجبن القريش.. إلخ، كلها أنواع يتميز بها المطبخ الشامي الصباحي. أعتقد أن الألبان والأجبان من أكثر الأطعمة شعبية لدى كثير من شعوب الأرض، ولكن يختلف عند كل منها درجة التخمر وطرقه، فالأجبان في كل منطقة من العالم لها نكهاتها الخاصة التي توفرها لها “بصمتها”، وهو ما نجده واضحًا في أنواع الأجبان والألبان والمخلات، فمثلًا الجبنة الفرنسية والهولندية لها نكهاتها الخاصة وكذلك في باقي دول العالم.
ولعل تميز السفرة الشامية يعود إلى المناخ المتنوع الذي تتميز به عن بلاد العالم، وهو ما يمنح المطبخ الشامي الصباحيّ نتيجة عوامل تخمر وتخلل وتعفن تعطيها “بصمتها” الذوقية المميزة، ما يجعل لها مكانة متميزة ومتفردة بين المطابخ العالمية الأخرى.