الشرق الاوسط
خلال اللقاء التحضيري للمنبر الديمقراطي السوري، الذي عقد عام 2012 في القاهرة، ساد جو من الشك والريبة في عمل الجيش السوري الحر، وتعالى نقد متفاوت الحدة تجاه أساليبه القتالية وبنيته وهويته.
وكان بين الحضور شابان من مدينة حمص، قدما من الداخل، أحدهما مواطن مسيحي هو دكتور في المعلوماتية من إحدى جامعات أوروبا، والثاني أستاذ أدب إنجليزي جاء من سلمية إلى المدينة مدرسا في جامعتها، وبقي بعد الثورة فيها وصار واحدا من أبنائها، حتى أنه كان يتحدث بلكنتها المحببة كأي حمصي أصيل. خلال اللقاء علمنا أنه ابتكر مناظير ليلية للجيش الحر صنعها من كاميرات صينية رخيصة الثمن، وثيابا واقية من الرصاص، وقاذف شحنات متفجرة يستطيع تدمير الدبابات عن مسافة كبيرة، مع أنه أستاذ أدب مقارن.
كان الشابان يؤكدان أن المتحدثين لا يعرفون الواقع على الأرض. وقد حكى خبير المعلوماتية قصة تدور حول إدخال مائتي ربطة خبز إلى حي محاصر. قال الشاب: طلبنا من الجيش الحر مساعدتنا على إدخال الخبز إلى الحي، فاستمهلنا ريثما يشتبك مع قناصة وشبيحة ينتشرون في الحي. بعد ساعة أخبرنا المقاتلون أن نستعد لاجتياز شارع يقع تحت مرمى القناصة، بينما يقومون هم بالاشتباك معهم. حين انتهت المهمة، عاد الشباب إلى بيوتهم سعداء بما فعلوه. لكنهم علموا بعد ساعات أن خمسة مقاتلين استشهدوا خلال العملية. قال الراوي بأسى وغضب: قدم هؤلاء حياتهم كي يدخل الخبز إلى أهالي الحي، وتساءل بقهر: هل تفهمون ما يعنيه استشهاد شبان بعمر الورد من أجل إيصال الخبز إلى المواطنين؟
– قالت الصديقة الكاتبة التي عادت للتو من ريف إدلب: إنها تجاذبت ذات يوم أطراف الحديث مع جامعي في مقتبل العمر أخبرها أن دبابات السلطة ستجتاز غدا المنطقة في طريقها إلى حلب، وأنه ورفاقه سيهاجمونها. سألته: بماذا، فأجاب: ببنادقنا. صرخت بخوف: لكنكم ستقتلون، فقال: المهم أن نمنعهم من الوصول إلى حلب، أو أن نؤخرهم عن بلوغها ولو لساعة واحدة. في اليوم التالي استشهد الشاب خلال المعركة، التي أخرت بالفعل وصول القافلة إلى حلب لساعات كثيرة.
هاتان الروايتان لن يجدهما المرء بين القصص المتداولة عن الجيش الحر، وإنما سيجد قصصا أخرى واسعة الانتشار تتحدث عن قطّاع طرق أو عن أمراء حرب، من دون أن يقول أحد: هؤلاء ليسوا من الجيش الحر، الذي قام للدفاع عن الشعب، ولا يقبل أن يقوم منتسبوه بأفعال تشبه ما يفعله الجيش الأسدي، كي لا يكونوا نوعا من اختراق سلطوي داخل الشعب والجيش الحر.
سقت هاتين الروايتين بمناسبة ما لاحظته في أميركا من تجنٍ واسع النطاق على الجيش الحر، يجعله تجمعا يضم جهاديين ومتطرفين وأصوليين يقاتلون نظاما شرعيا لأنه علماني. هذه الصورة أخذت تنطلي حتى على العرب هناك، من دون أن تبذل أي جهود منظمة لتصحيحها، أو أن يكرس لها من وقت المعارضة وقتا أطول من الوقت الذي تكرسه في حالات كثيرة لمهاترات تمليها غالبا حسابات شخصية تذهب في منحى لا يخدم الشعب، يقوم على إقناع العالم بأن المعارضة أشد بؤسا من أن تتولى سلطة، وأكثر انقساما وتهافتا من أن تدير وطنا، وأن صفوفها تعج بالخونة والعملاء. يحدث هذا، بينما ينفق النظام عشرات ملايين الدولارات لنشر ما يجري تبادله في الصف المعارض من شتائم واتهامات تدين أطرافه من أفواهها، ويوظف مكاتب إعلام متخصصة تعمل على تزوير واقع سوريا وتحسين سمعة قَتَلتْها بالاستعانة بأكذوبة «الحرب» التي يشنها الجهاديون على النظام لأنه علماني.
لا بد من الآن فصاعدا من التركيز على وقائع تظهر – من دون كذب أو مبالغة – ما أنجزه الشعب من بطولات وقام به من أعمال إنسانية سامية، نجدها غالبا في سلوك معظم مقاتلي الجيش الحر، الذين يبدون آيات من البطولة والشهامة مكنت بلدة صغيرة المساحة كـ«داريا» من الصمود طيلة أشهر في وجه صبيب النار الذي ينهال يوميا عليها، ومثلها أماكن أخرى أكثر عددا من أن يتسع الحديث لمآثرها. يرتكب النظام الجرائم، لذلك يحتاج إلى من يغسله بماء الكذب. بينما يحجم قسم عظيم من منتسبي الجيش الحر عن شائن الأفعال، فلا حاجة عند الحديث عنهم إلى كذب يحسن سيرتهم، بل تمس الحاجة إلى الحقيقة، حتى فيما يتصل بالأفعال غير الإنسانية وغير القانونية التي ترتكب هنا وهناك على يد جماعات تدعي الانتساب إليه، أخطر ما فيها أنها تقوض هويته الوطنية، وتجعل العالم ميالا إلى تصديق الأكاذيب التي ينشرها النظام عنه، فلا بد من الآن فصاعدا من أن يتصدى لها ويدينها في كل حالة مهما كانت صغيرة، ولا مفر من تشكيل لجنة خاصة فيه تلاحق وتحاسب مرتكبيها، على أن يتلازم مع ذلك تعريف العالم بهذه الجوانب من تاريخ وطني جديد يصنعه رجال يضحون بحياتهم كي يوصلوا رغيف خبز وحبة دواء إلى مواطن يحاصره النظام ويعمل على قتله جوعا ومرضا.
هل يجوز أن تبقى تضحيات إنسانية نبيلة مجهولة، وأن تكون المبادرة الإعلامية بيد نظام يقتل الشعب، وأن يحجم حماته عن إشهار دورهم في الذود عنه وإنقاذه؟